رأي

غزة.. الخيارات الصعبة

كتب أدهم إبراهيم في صحيفة العرب.

ما يحدث في غزة مجرد فصل آخر في تاريخ طويل من المعاناة، حيث تظل المعركة الرئيسية النضال من أجل البقاء في مواجهة احتلال يهدف إلى محو كل أثر للهوية الفلسطينية.

أعرب الرئيس الأميركي دونالد ترامب عن رغبته في “شراء وتملك” قطاع غزة، مدعيا أن غزة عبارة عن “موقع عقاري مميز” يجب استغلاله، وأن الفلسطينيين لن يحظوا بحق العودة. وهدد بإيقاف المساعدات للأردن ومصر إذا لم يستقبلا اللاجئين. وهذا يعني التهجير القسري لسكان غزة البالغ عددهم أكثر من مليوني فلسطيني.

أثار ذلك غضب سكان القطاع الذي تم تدميره بعد خمسة عشر شهرًا من الحرب الظالمة التي خلفت أكثر من 60 ألف قتيل وشردت ما يقرب من كامل السكان.

غزة جزء من الأراضي الفلسطينية، وتحكم وضعها أطر دولية، بما في ذلك قرارات الأمم المتحدة واتفاقات أوسلو. وبموجب القانون الدولي، فإن غزة جزء من وطن ليس “للبيع”. حيث تتناقض فكرة شراء الأراضي التي يسكنها سكان يتمتعون بحقوق سياسية معترف بها مع مبادئ تقرير المصير والسيادة.

يشكل مستقبل غزة بعد الحرب معضلة كبيرة، حيث يواجه العديد من القضايا الشائكة المتعلقة بحكم المنطقة، وإدارة الأمن، وتمويل إعادة الإعمار. مع رفض إسرائيل بشكل قاطع السماح لحماس أو السلطة الفلسطينية بممارسة أي سيطرة سياسية أو أمنية على القطاع. عقدت دول خليجية مع مصر والأردن قمة مصغّرة “غير رسمية” في السعودية لتقديم خطة عربية مضادة لمقترح الرئيس الأميركي.

عرضت مصر خطة من ثلاث مراحل:

الأولى: الإنعاش المبكر وتستمر ستة أشهر وتتضمن إزالة الركام وتوفير منازل متنقلة للسكان مع استمرار تدفق المساعدات الإنسانية.

الثانية: عقد مؤتمر دولي لإعادة الإعمار مع بقاء السكان على الأرض.

الثالثة: إنشاء إدارة فلسطينية غير منحازة لحماس أو السلطة الفلسطينية.

كما تقود السعودية مبادرة تدعو إلى إقامة دولة فلسطينية عاصمتها القدس الشرقية. ويهدف هذا النهج إلى منع الآثار المزعزعة للاستقرار في ظل عمليات الإخلاء القسري المفترضة والحفاظ على الأمن الإقليمي. ومع ذلك، لا تزال هناك تحديات، بما في ذلك معارضة بنيامين نتنياهو لإقامة دولة فلسطينية، ومقاومة حماس للخطط التي تهمشها.

تظهر الدروس المستقاة من الإخفاقات السابقة (مثل الانسحاب الإسرائيلي بعد عام 2005، وحروب غزة بعد عام 2014) أن إعادة الإعمار دون تقدم سياسي تؤدي إلى أعمال عنف دورية. يمكن للدول العربية، وعلى الأخص مصر والسعودية، أن تلعب دورًا فاعلاً في تبني الآفاق السياسية لغزة، وإيجاد حل أوسع للصراع الإسرائيلي – الفلسطيني، مثل تأكيد الجهود نحو حل الدولتين أو مبادرة السلام العربية. وهنالك خطط لإنشاء لجنة وطنية فلسطينية لحكم غزة دون حماس، وتشجيع المجتمع الدولي على المشاركة في إعادة إعمار القطاع دون تهجير سكانه، والتحرك نحو حل الدولتين، إسرائيلية وفلسطينية، أو حل الدولة الواحدة مع التعايش في ظل حقوق متساوية.

إن اقتراح ترامب السقيم بأن تسيطر الولايات المتحدة على غزة يجعل الأمور أكثر غموضًا. فالفلسطينيون غير راغبين في الهجرة، كما رفضت مصر والأردن استقبالهم. وليس من قبيل المصادفة أن الولايات المتحدة ليست لها سلطة على المنطقة أو شعبها فحسب، بل إن فكرة نقل مجموعة عرقية كاملة بالقوة تستحضر صور التهجير القسري والإبادة التي تعرض لها اليهود في الحرب العالمية الثانية.

يواجه سكان غزة أزمة مزدوجة: النضال اليومي من أجل البقاء، والتهديد الإستراتيجي لوجودهم وهويتهم الوطنية. وبالرغم من أن عودة العائلات النازحة إلى شمال غزة تشكل خطوة مشجعة، إلا أن هناك حقيقة أكبر وأكثر إثارة للقلق هي هشاشة الاتفاق، إلى جانب التصريحات الاستفزازية من جانب الولايات المتحدة وإسرائيل والمعاناة الإنسانية على الأرض التي تشير إلى أن الفلسطينيين يتجهون نحو مستقبل غير مؤكد وخطير، حيث تهدد الأجندات الدولية والإقليمية وجودهم ذاته.

وهنا تبدو الحاجة ملحة إلى مشروع سياسي مستدام أكثر من مجرد مساعدات مالية لإعمار غزة؛ وهذا يتطلب إستراتيجية سياسية متماسكة تعالج الحكم، وتجيب عن تساؤلات حول مستقبل غزة ومن سيديرها؟ وتشمل الخيارات تنشيط السلطة الفلسطينية، أو تشكيل حكومة وحدة وطنية، أو الرقابة الدولية الانتقالية، علمًا أن الشرعية المحلية في الوقت الحاضر تعد أمرًا بالغ الأهمية.

إن ما يحدث الآن في غزة هو مجرد فصل آخر في تاريخ طويل من المعاناة، حيث تظل المعركة الرئيسية هي النضال من أجل البقاء في مواجهة احتلال جائر، يهدف إلى محو كل أثر للهوية الفلسطينية. ورغم هذه التحديات الهائلة، فإن صمود الشعب الفلسطيني وتشبثه بأرضه يقدمان بريق أمل كبير لمستقبل تسود فيه العدالة والكرامة، وتظل فيه قضية فلسطين حية إلى الأبد.

أخبار مرتبطة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

شاهد أيضاً
إغلاق
زر الذهاب إلى الأعلى