كتب د.خالد عزب في الجزيرة نت
تمثّل الحروب المتتالية ضد غزة إشكاليات متعددة على الصعيد الثقافي الفلسطيني والعربي والدولي، خاصةً أنّه جرى التركيز في الحرب الأخيرة على المنشآت التي تمَّ تدميرُها، لكن الأصعب هو انتهاء الحياة الثقافيّة والفنية في القطاع الذي يُعاني من ضعف البنية الثقافية.
لقد جرت محاولاتٌ عديدة لكي تظلّ الثقافة في غزة حيوية في ظلّ الحصار الإسرائيلي، لكن بالرغم من الحرب والقصف فإن مأساتها أفرزت شعراء شبابًا- مجهولين – من داخل غزة، شاع شعرهم في وسائط التواصل الاجتماعي، منهم حيدر الغزالي الذي طافت قصيدته: “هنا غزة” بكافة وسائط التواصل الاجتماعي، حيث يقول فيها:
أحلامنا بسيطة جدًا
أريد أن تمشوا في جنازتي
أن تلقوا على وجهي الزهور
أريد وجهي
ولأنني لا أحب الانتظار
أريد من غرفتي
التي اتسعت لأحلامي الكبيرة
ألا تخنقني
لا أريد انتظار الموت تحت الركام
فإني – مرة أخرى – لا أحب الانتظار
وقبل هذا الموت
أريد أن أكون إنسانًا لآخر مرة
أن أرشف التوت
في ليالي السكون
وأعبر نقيًا
إليك يا الله
حصار ثقافي
كانت الثقافة في غزة تحت الحصار منذ عام 2007 م، فمنع عدد كبير من المثقفين من المشاركة في فعاليات ثقافية خارج غزة، فبقي عدد منهم في إطار غزة، كما أن حركة الطباعة والنشر ظلّت محدودة.
كما كانت المنشآت الثقافية هدفًا للقصف في كل مرة تخوض فيها إسرائيل حربًا ضد غزة، ففي أبريل 2021 م، أدّى الاعتداء لمدة 11 يومًا على قطاع غزة إلى التدمير الكامل أو الجزئي للبنية الثقافية المهمة، وكان أبرز ما دُمر جمعية “بسمة للثقافة والفنون”، وسبق أن دُمر مركز المسحال الثقافي الذي أُسس عام 2004 م.
إن تَكرار الاعتداء على منشآت ثقافية يؤشر على أنّها ضمن بنك أهداف الجيش الإسرائيلي، لذا فمكتبة “سمير منصور” في حي الرمال التي استهدفت عام 2021 م، استهدفت في أكتوبر 2023 م، ففي عام 2021 م، كان تدميرها باعثًا لعدد من النشطاء حول العالم للقيام بحملة لإعادة افتتاحها، فافتتحت في فبراير 2022 م، بعد أن تمّ جمع 250 ألف دولار و100 ألف كتاب، مكتبة “سمير منصور”، هي الكبرى في غزة، وهي تقع في حي “الرمال” على طابقين، وتعدُّ دارَ نشر ومكتبة ومكانًا للحراك الثقافي.
المكتبات هدف عسكري
لكن من الواضح أن العديد من المكتبات كانت هدفًا محددًا، مثل: مكتبة “الشروق” ومكتبة “اِقرأ” ومكتبة “النهضة”، ومطبعة ومكتبة “المقداد” التي يعود تأسيسها إلى ثلاثين عامًا، والتي تقدم خدماتها لطلاب الجامعات، كما أنها واحدة من أهم مطابع غزة، فقد كانت تطبع الكتاب الجامعي. وقدرت وزارة الثقافة الفلسطينية أن عدد دور النشر التي قصفت في الحرب الأخيرة بلغ تسعًا.
لكن في حقيقة الأمر، العدد شمل كل دور النشر الفلسطينية العاملة في غزة، فتقدير وزارة الثقافة الفلسطينية للمكتبات العامة في غزة بنحو 80 مكتبة كلها جرى تدميرها بدرجات متفاوتة، لكن كانت كبرى الخسائر في مكتبات الجامعات في غزة، حيث قُصفت كل الجامعات بلا استثناء، وعلى رأسها الجامعة الإسلامية، وجامعة الأزهر فرع غزة، فتم تدمير مكتبة الجامعة الإسلامية التي تتكوَّن من 5 طوابق.
لكن أكبر مكتبة عامة في غزة، هي مكتبة بلدية غزة في شارع الوحدة التي تأسّست عام 1999 م، وهي من طابقين وقبو، حيث ضمت ما يزيد على 10 آلاف كتاب، ودورُها الأهم هو الدورات التعليمية والأنشطة الثقافية التي تميزت بها، وكانت هذه المكتبة نُفّذت عبر اتفاقية توأمة مع مدينة دونكيرك الفرنسية، والبنك الدوليّ.
يعد مركز “رشاد الشوا” أحد معالم غزة، فقد تأسس عام 1985، وافتتح عام 1988م، ودُمر في 28 نوفمبر الماضي، ويضم مكتبة “ديانا تمارا”.
وقد سُمي المركز على اسم “رشاد الشوا” رئيس بلدية غزة في سبعينيات وثمانينيات القرن العشرين، وشهد المبنى فعاليات سياسية وثقافية مهمة، وكان قد صممه المهندس السوري سعد محفل، وهو من ثلاثة طوابق، ويضم صالات وقاعات، وفي قبوه مطبعة الهيئة الخيرية التي تطبع المجلات الثقافية، مثل: مجلة “رؤيا”، ومجلة “عشتار” وغيرهما، فضلًا عن الكتب.
كانت المراكز الثقافية هدفًا للقصف الإسرائيلي، ومنها المركز “الثقافي الكاثوليكي” بمنطقة “تل الهوى”، ومعهد “كنعان التربوي الإنمائي” في حي “الرمال”، وهو مؤسَّسة مجتمعية تأسَّست عام 1997م، وكان يحتوي مكتبة غنية بالكتب، وأهميته تعود لدوره في تدريب الأطفال وإكسابهم مهارات متعدّدة.
كما قصف الطيران جاليري “التقاء” في شارع “عمر المختار”، وسط غزة، وهو مبادرة شبابية، للترويج وتحفيز الفنون البصرية، ويضم معرضًا دائمًا، كما كان ينظم دورات تدريبية للشباب والأطفال، وتعود أهميته إلى قيادته الفنون التشكيلية في غزة، حتى صار يشكل رافدًا للحياة الفنية، كشف مواهب وقدرات كبيرة لدى الغزيين.
لم تسْلم قرية “الفنون والحِرف” في غزة من التدمير المتعمد، حيث قصفت بشدة، وقد أسستها بلدية غزة عام 1998م، وكانت ترعى وتنمي الحِرف التقليدية الفلسطينية، مثل: التطريز والنحاس والخشب، وساعدت في الحفاظ على هذا التراث.
دمرت إسرائيل أيضًا مسرح “الوداد” وجمعية “وداد للتأهيل المجتمعي” في “تل الهوى” بغزة، والمسرح كان مجهزًا بصورة جيدة، ويضم 300 مقعد، وكان فضاء للمناسبات والحركة المسرحية في غزة، ولم تسلم جمعية “البيادر للمسرح والفنون”، وقد بدأت “البيادر” كفرقة مسرحية عام 1994م، قدَّمت العديد من المسرحيات الناجحة مثل: “أبيض وأسود”.
تراجع ثقافة الانكسار
إن كل ما سبق لم يوهن عزم المثقّفين والفنانين في غزة، بالرغم من استشهاد عدد كبير منهم، لكن الحرب- كما أي حرب تخوضها مقاومة- تولّد جيلًا جديدًا من المبدعين المقاومين.
ففضلًا عن الشعر، قدموا العديد من الأعمال النثرية التي تحفز الناس على الصمود والمقاومة، وسط تراجع – لافت للانتباه في غزّة – للعشائرية والثقافة الجهوية، وتراجع ثقافة التبرير والفشل والانكسار.
لعل أكثر ما ننتظره من الحركة الأدبية في غزة هو تقديم روايات تجسد ما حدث في الحرب الأخيرة، فرواية الحرب تنقل ما لا تستطيع الصورة نقله من مآسٍ ومشاعر ومواقف.
إن إدانة اليونسكو لتدمير البنية التحتية للثقافة في غزة، لم تذهب إلى إدانة قتل كبار الأدباء والفنانين في غزة، فلم يحمل هؤلاء سلاحًا ضد إسرائيل، بل استشهدوا في منازلهم أو في الشوارع، ومنهم: بلال جاد الله رئيس الصالون الثقافي، والكاتب عبد الله العقاد، والفنان ثائر الطويل.
كما أن المنظمة العربية للتربية والثقافة والعلوم (الألكسو) بحاجة إلى أن تكون فاعلة في التعامل مع ما يحدث للبنية التحتية في غزة من تدمير. وعلى جانب آخر، يجب علينا أن ندرك أن حصار إسرائيل لغزة شمل منع دخول الكتب إلا بموافقة منها، فحتى الكتاب كان تحت الحصار.