
كتب جمال غصن, في “الأخبار” :
المشهد الأول: كانت قاعة الوصول في مطار بيروت الدولي خلال ثمانينيات القرن الماضي، أي قبل مرحلة إعادة الإعمار التي تلت الحرب الأهلية، تقع على يمين المبنى الرئيسي للمطار وكانت حشود المستقبلين تتجمهر في العراء خارج المبنى بأرقام تفوق أعداد ركّاب الطائرة بأضعاف في انتظار ظهور المغترب العائد. تغيّر مبنى المطار، وانتقلت مشاهد استقبال العائدين إلى قبوٍ في المبنى المحدّث لا تراه الشمس، ولكنّ حفاوة استقبال اللبناني للمقرَّبين المغرَّبين قسراً إلى أقاصي الأرض لم تختفِ رغم التطوّر الذي طرأ على التواصل والمواصلات في العقود الأخيرة.
مشهد الاستقبال في مطار بيروت هذا غريبٌ على سائر مطارات العالم حيث تغلب البرودة على قاعات الاستقبال فيها التي غالباً ما ينحصر الوجود فيها على وجوه غرباء لا يعرفون عن القادمين إلا أسماءهم المطبوعة على أوراق يحملونها وأرقام بطاقات الائتمان التي غطّت أعباء الترحيب بالضيف. ظروف سفر أهالي هذه الأرض عبر الأجيال هي ما تجعل العودة إليها مدعاة للاحتفال، فمنذ أيّام ركوب «أهالي الأطراف» البحور على متن «البابور» إلى وجهات مجهولة من المعمورة إلى أن طالت الهجرة «نخب المدن» والسفر الجوّي المكّوكي في كبينة «رجال الأعمال»، لم يكن ترك الأهل لأرضهم طوعاً وأبديّاً يوماً، بل كان دوماً ظرفيّاً ومؤقتاً. لذا كلُّ عودةٍ في وجه قَسْرٍ نصرٌ جديرٌ بالاحتفال.
المشهد الثاني: شهد الأسبوع الأخير من شهر أيّار في العام ألفين عودة تاريخية لأهل «الشريط الحدودي» إلى أرضهم التي احتلتها «إسرائيل» ظرفيّاً ومؤقتاً، وإن كانت تنوي غير ذلك. نجح أهل الأرض في طرد المحتلّ بعد أن ضحّوا طويلاً وطوعاً لئلّا يخسروا ما سُلِب منهم قسراً. لا يحتاج مشهد الفرح والاحتفال في وقتها وفي ذكراه إلى أي شرحٍ أو تبرير، بل يصعب تبرير تبرّؤ البعض من فرحة إنجازٍ أسطوريّ في وجه غزاة عتاة إلى درجة التماهي مع هواة الإبادة. لكن في كلّ أرضٍ وضيع مستعدٌّ لأن يَصْغُر ويستغني عن الأرض ومن فوقها وما تحتها من أجل أيّ مكسب أو منصب أو مصلحة أو مهمّة عند المستعمر المحتلّ، مع العلم أنّه مهما كبُرَ يبقى سقفه «أبو مازن». عودة أهل جنوب لبنان إلى قراهم المتاخمة لفلسطين المحتلة هو مشهد انتصار يتكرّر أسبوعياً منذ تحرير الأرض، ويتجسد في زحمات سير على طريق الجنوب في كل يوم عطلة، إذ إن حتّى المكوث المؤقت في العاصمة وضواحيها هو لضرورات معيشية وليس خياراً أوّلَ لكُثر لو أتيحت لهم فرص السكن الدائم في بلداتهم.
المشهد الحالي: لا توجد مقوّمات الحياة في كثير من أنحاء غزّة المنكوبة كما في قرى الصف الأول وحتى بعض بلدات الصف الثاني من جبهة الإسناد في جنوب لبنان. هذا الأمر لم يمنع أهل الأرض من الإسراع بالعودة إليها والاحتفال على أنقاض بيوتهم في غزة وفي لبنان. ثمن العودة اليوم مكلفٌ ومؤلمٌ جدّاً، لكن الشتات قسراً ليس قدراً أبديّاً يمكن القبول به مهما صعب وطال. لذا مشهد العودة جدير بالاحتفال، مهما كان موجعاً، لأنه حصل وسوف يتكرّر إلى أن تزول أسباب النزوح القسري لأهل الأرض عنها. من يعيبون على العائدين فرحهم هم من يتجاهلون سبب نزوحهم أصلاً، ويتناسون جريمة إبادة جماعية لم تنتهِ بعد، أو يتماهون معها ويتباهون بها. هؤلاء خاسرون مهما ظنّوا أنهم كاسبون. هناك على أرضنا هذه من قرّر أنّه لن يُباد وسوف يعود ويحتفل بعد كلّ غياب قسريّ، وأن كيان الإبادة نفسه ظرفيّ ومؤقت، فما بالكم بطفيليّي الكيان؟
المشهد الأخير: طوفان عودة أهل فلسطين إلى مدنهم وقراهم «من المَيِّة إلى المَيِّة» أقرب من أي وقت مضى. لن يكون اليوم أو غداً، ولكنّه أقرب من أي وقت مضى. سوف يكون مكلفاً ومؤلماً، لكنّه ثمنٌ يدفعه أهل الأرض طوعاً، وسوف يحتفلون منتصرين بتحريرها يوماً رغم كلّ الأكلاف.