عن «كَنْتَنة» بالأمر الواقع: خيارات السوريين تزداد صعوبة

دور الاحتلال الإسرائيلي في محافظة السويداء يكرّس مساراً انفصالياً يهدّد وحدة سوريا ويكشف حقيقة الصراع مع الاحتلال كعدو رئيسي للشعب السوري.
كتب حسين إبراهيم, في الأخبار:
المسار الذي وُضعت عليه محافظة السويداء في جنوب سوريا، لا رجعة فيه، رغم أنه ليس من السهولة أن يقود إلى انفصال رسمي عن سوريا، أو حتى إلى حكم ذاتي مسلَّم به من قبل سلطات دمشق الجديدة. ولكن ما دام تمّ فرضه عبر الإخلال بميزان القوى الذي كان قائماً قبل أحداث العامين الماضيين، فإن من غير الواقعي توقّع عكسه، إلا عبر تصحيح هذا الميزان. قد يبدو الوضع الحالي، حتى من دون «رسمنة»، مريحاً لدروز السويداء، أقلّه بإزالة التهديد المحيق بالحياة الذي تمثّله الجماعات المتطرّفة التي هاجمت المحافظة، ولكنه لن ينهي مشكلاتهم مع جوارهم، ولا سيما أن السويداء صارت ملحقة أمنياً بإسرائيل التي تطمع في ضمّ المحافظة، استكمالاً لضمّ الجولان – ذي الطبيعة الطائفية المماثلة – عام 1981. ولو لم يكن الأمر كذلك، لما كانت تدخّلت أصلاً في أحداث السويداء تحت حجة حماية الدروز.
السويداء لا تملك مقومات البقاء وفق الصيغة التي هي عليها الآن من دون الارتباط بإسرائيل. لكن هذا الارتباط لا يكفي وحده؛ إذ يمنع عدم الاتصال الجغرافي مع الكيان، الأخير من إمدادها بأسباب الحياة. ولذلك، ما يزال يتعيّن إيجاد ترتيبات توافق عليها دمشق لهذا الإمداد. ولأن الأمر كما تقدّم، فإن سكّان المحافظة سيتحملون وزر عداء الشعب السوري الذي بدأ يظهر بشكل أكبر مع اتضاح مدى النوايا العدوانية الإسرائيلية التي لا تهدّد وحدة تراب سوريا فقط، وإنما نظامها الجديد أيضاً، أي ما يمكن تسميته بـ«الحلم السوري»، الذي يقوم على دولة موحّدة تحكمها الغالبية، فيما المكوّنات الأخرى طائعة لها.
سريعاً ما اكتشف السوريون صعوبة الأمر في منطقة يحكمها الكواسر، لا القانون أو الأعراف الدولية؛ تماماً مثلما اكتشف نظامهم الجديد ذلك قبلهم، لأنه أصلاً ولد من رحم ترتيبات كانت اليد الطولى فيها لهذه الكواسر، ولكنه أخطأ حين وضع كلّ رهاناته في سلة الأميركيين، على أمل أن يرفعوا العقوبات عن سوريا ويشجعوا الاستثمار فيها – وهو ما تحقّق جزئياً -، وأن يضغطوا على إسرائيل لكي تعقد اتفاقاً مع السلطات الجديدة من دون أن تتدخّل في شكل سوريا. إلا أنه في هذه الجزئية بالذات، ما يتحقّق على الأرض هو العكس تماماً.
ما حدث في السويداء جعل السوريين يعيدون اكتشاف حقيقة أن مشكلتهم الرئيسية تبقى مع إسرائيل وليس غيرها، خصوصاً في زمن لم تعد فيه الأخيرة تقبل بأنصاف اتفاقات أو أنصاف هدن تفصل عن جولة أخرى من النزاع، بل تريد بتّ الأمر في أرضه. ويتكرّس هذا الواقع بأن الهجوم الذي تمّ على السويداء على مرحلتين، الأولى قادتها تركيا عبر فصائلها المتطرّفة، والثانية قادتها السعودية عبر العشائر، فشل في انتزاع المحافظة من حفنة مقاتلين محاصَرين، وذلك بسبب الدعم الإسرائيلي، رغم أن الدولتين المذكورتين تمثّلان ثقلاً إقليمياً كبيراً.
وعليه، لا يمكن توقّع الحد الذي يمكن أن تصل إليه سلطات دمشق الجديدة في التنازل، كما لا يمكن الحديث هنا عن مستحيلات، ولا سيما أن أميركا وإسرائيل تتفرّدان بإدارة اللعبة حالياً، بعد أن نجحتا في تقليص أدوار المشاركين الآخرين في إيصال سوريا إلى وضعها الجديد، ولا سيما منهم تركيا. ففي الأسابيع الأخيرة، اتضح أن تل أبيب تمكّنت من تعديل المخطّط الذي يعمل على رسمه المبعوث الأميركي، توماس براك، لسوريا الجديدة، الأمر الذي ظهرت نتائجه في ما آلت إليه أوضاع السويداء.
مشكلة إسرائيل، وهي تحاول الوصول إلى المدى الأمني الذي تريده لها في جنوب سوريا، والسويداء هي الحلقة الأساسية فيه، ستكون مع الشعب السوري، بمعزل عمّا يذهب إليه الرئيس الانتقالي، أحمد الشرع، الذي تنازل عن الكثير، حتى الآن، ويمكن أن يتنازل عن أكثر. فالحضور الإسرائيلي، سواء بالوجود المادي، أو بالسيطرة النارية، أو بفرض شروط من نوع إحداث تغيير ديموغرافي، يشمل خصوصاً السنة، أو بفرض منطقة منزوعة السلاح، سيغطي مساحات واسعة من الجنوب السوري، تشمل محافظة درعا، وتصل إلى تخوم دمشق، وهو ما يعني إضعاف الدولة هناك إلى الحدّ الذي سيمكّن مناطق أخرى غير السويداء من الانضمام إلى الموجة الانفصالية.
ومن البديهي، والحال كذلك، ألا تبقى التأثيرات محصورة داخل الجغرافيا السورية؛ فوفق هذا السيناريو، سيصبح الاحتلال الإسرائيلي على الحدود بين سوريا والأردن، وأقرب إلى حدود العراق، وفي وضعية تمثّل تهديداً أكبر لتركيا عبر دعم الأكراد في الشمال الشرقي. وهنا، قد تكون أنقرة، وليس الشرع، هي من وقعت في الفخّ الإسرائيلي عبر الدفع بالمتطرّفين الموالين لها لمحاولة حسم سريعة في السويداء، أرادت لها أن تمثّل، في الوقت نفسه، عِبرة لـ«قسد»، وتوفّر زخماً لحسم مماثل هناك، ولكن النتيجة جاءت معاكسة تماماً، حيث وفّر ما جرى في السويداء دافعاً لـ«قسد» للتشدّد في موقفها، والسعي إلى تطبيق نموذج مماثل، كما إنه أسال لعاباً انفصالياً في الساحل أيضاً.
خطورة ما يجري في السويداء، وقد يتكرّر في مناطق أخرى، تنطلق من أن الدروز، وبمعزل عمن يتحمّل مسؤولية وصولهم إلى هذا الوضع، وربما الكرد أيضاً، وغيرهم لاحقاً، صاروا الآن أمام أحد خيارين أحلاهما مرّ، وثمة تخادم بينهما، سواء بشكل منسّق أو موضوعي: الارتماء في أحضان إسرائيل التي تهدّد سوريا كلّها، وتفيد التجارب بأنه لا سقوف لمطالبها؛ أو المخاطرة بمواجهة مع تطرّف ديني، هو الآخر لا يمكن تحديد مدى ما يمكن أن يصل إليه أو يقبل به، أقلّ من التكفير والقتل. وحتى إذا لم تنجح إسرائيل في «رسمنة» الأمر الواقع الذي تحاول فرضه في سوريا، واختارت، أو فُرض عليها، حلّ تفاوضي مع دمشق، فإن امتلاكها هذا الكمّ من الأوراق يضعها في موقع أقوى بكثير ممن يجلس على الجهة المقابلة من الطاولة.