عن فوز اليسار الفرنسي
كتب مدى الفاتح, في “العربي الجديد”:
حبست فرنسا، ومن خلفها العالم، الأنفاس بسبب نتائج الاستطلاعات التي كانت تشير إلى تصدّر اليمين الانتخابات التشريعية في جولتها الثانية. ماري لوبان، وحزبها التجمّع الوطني، كانا يبدوان واثقَين من الفوز على المنافسين.
كان ذلك مُقلِقاً. العرب والمسلمون، الذين عانوا من الاستهداف والتهميش والوصف بالانعزال منذ وصول الرئيس إيمانويل ماكرون إلى الحكم، بدأوا يخشون على مستقبلهم ومستقبل أطفالهم، فإذا كانت إجراءات مثل منع النقاب والحجاب، وحتّى العباءة، في المدارس، وإغلاق عشرات من المراكز الإسلامية والمساجد حدثت في عهد ما يُعتبَر حزباً وسطياً (أو معتدلاً)، فكيف سيكون الحال إذا ما تمكّن مُتطرّفون وعنصريون من الحكم؟
وكان وصول اليمين، المرتبط في الأذهان بعداء اليهود، مُقلِقاً أيضاً للجمعيات اليهودية، التي تشتكي من تنامي ما تسمّيها “معاداة السامية”، ومن الربط بينها وبين ما يحدث في فلسطين. ذلك كلّه مُهمّ. لكن، وصول اليمين المُتطرّف إلى الحكم في فرنسا عبر أغلبية تمنحه الحقّ في تشكيل حكومة كان سيكون له آثار أكبر بكثير من مُجرّد استهداف الأقلّيات أو التضييق على المهاجرين. على سبيل المثال، تُتَّهم ماري لوبان، الاسم الأبرز في التيار اليميني، بالارتباط المالي بروسيا. بحسب معارضيها، لا يجعل هذا الارتباط وتضارب المصالح مواقفها وطنية تماماً. وقد اتهمها الرئيس ماكرون، في مناظرة سابقة، بالحصول على تمويل من موسكو، وعلى مساعدات مالية في شكل قرض بنكي لم يُسدّد.
تَقدُّم اليمين، وتصويت الملايين له في كلّ انتخابات، يدلّل أنّ أفكار لوبان ليست معزولة
هذا الأمر شديد الحساسية، فتَقدُّم سياسية فرنسية مُقرّبة من الكرملين ومؤمنة، على عكس منطق الحرب والمواجهة السائد، بأنّ من الممكن إقامة تحالف بين العواصم الأوروبية وموسكو، يعني تفكيك منطق العداء لروسيا، وهو ما قد يقود إلى إعادة ترتيب العلاقة مع الولايات المتّحدة، الحليف الأكثر أهمّية لفرنسا ولدول الاتحاد الأوروبي. ماري لوبان مُتّهمة أيضاً بعدم حماسها للاتحاد الأوروبي، وبأنّها ترى أنّ الوجود فيه يأتي على حساب السيادة الوطنية، ويدفع إلى التنازل إزاء قضايا كثيرة، أمنية وتجارية. في دفاعها عن موقفها، توضّح لوبان أنّها لا تهدف للخروج من الاتحاد نهائياً، ولكن إلى وضع أسس جديدة له، بما يضمن المصالح الفرنسية.
كان الاعتراض على طريقة عمل الاتحاد الأوروبي (يعتبر لكثيرين من صنّاع القرار في القارّة مؤسّسةً مُقدّسة) يثير مخاوف كثيرين، فانسحاب دولة مُهمّة كفرنسا أو إعلان سياسيّيها الاعتراضَ على المبدأ الأساسي المُتعلّق بحرّية انتقال البشر والبضائع بين الدول الأعضاء، كما هو موقف “التجمّع الوطني” اليوم، يعني إفراغ الاتحاد من مضامينه.
تَقدُّم اليمين، وتصويت الملايين له في كلّ انتخابات، يدلّل أنّ أفكار لوبان ليست معزولة، وأنّ فرنسيين كثيرين يرون أنّ سببي الأزمة الاقتصادية وارتفاع تكاليف المعيشة يرجعان إلى الانخراط الزائد في الأزمة الأوكرانية، ومحاولات دعم بقاء الاتحاد الأوروبي، ولو على حساب الميزانية الفرنسية.
من الملاحظات المُهمّة التي تشير إلى مستقبل غامض يواجه مؤسّسة الاتحاد، أنّ لدى اليسار الفرنسي أيضاً تحفّظات على طريقة العمل الجماعي الأوروبي، ليبقى المُتحمّس الأكبر لبروكسل هو الرئيس ماكرون، الذي يرى أنّه لا يمكن فصل المصلحة الوطنية عن المصلحة القومية. يعترض اليمين أيضاً على ما يعتبره تركيزاً زائداً على موضوعات مثل حماية البيئة، وخفض الانبعاثات الحرارية. يكلّف هذا التركيز، وفق المنطق اليميني، الخزينة العامة والاقتصاد تكاليفَ كبيرة مُتعلّقة بمراعاة البيئة بحثاً عن “الاقتصاد الأخضر”، وهي تكلفة لا تتحمّلها دولٌ منافسةٌ مثل الولايات المتّحدة. دغدغ اليمين عواطف الناخبين بحديثه عن تكريس دعم أكبر للمواطنين، وزايد في هذا حتّى على اليساريين، الذين كانوا وعدوا بمزيد من الدعم والإنفاق الاجتماعي لمواجهة غلاء المعيشة. من السهل إطلاق وعود انتخابية، مثل زيادة الحدّ الأدنى للأجور أو توفير مساكن شعبية لائقة، ولكن يبقى السؤال بشأن مدى واقعية تلك الوعود مطروحاً، خصوصاً في ظلّ ما تعانيه فرنسا من أزمة الديون، وما يترتّب عليها من فوائد متراكمة. وهذا كلّه لا يسمح بالتوسّع في الإنفاق الاجتماعي.
لا يزال خطر نجاح اليمين في ما فشل فيه هذه المرّة وارداً
لا يتعلّق تحدّي إطلاق الوعود باليمين فقط، بل أيضاً باليسار، وبالجبهة الشعبية التي تصدّرت آخر نتائج، والتي كانت معركة فوزها في تقديرنا سهلة، بالمقارنة مع ما ينتظرها حين تستلم زمام القيادة. استطاعت “الجبهة الشعبية” هزيمة “التجمّع الوطني” بسبب انضواء مجموعة من الأحزاب فيها، في مقدّمتها “فرنسا الأبيّة”، والحزبان الاشتراكي والشيوعي، الذين جمعتهم الرغبة في منع اليمينيّين من الفوز. جان لوك ميلانشون، زعيم “فرنسا الأبيّة”، هو الاسم الأكثر أهمّية في “الجبهة الشعبية”، التي ليس لديها رئيس رسمي، وهو معروف بآرائه الراديكالية الناقدة لكثير من التوجّهات الفرنسية والأوروبية، سواء ما يتعلق بالسياسة الداخلية أو الخارجية.
على الرغم من إعلان النتيجة وحسم ملفّ الانتخابات التشريعية، إلّا أنّ التحدّيات، التي يمكن أن تواجه فرنسا لم تنتهِ، فلا يزال خطر نجاح اليمين في ما فشل فيه هذه المرّة وارداً، خاصّة أنّ مقاعده البرلمانية، حتّى في ظلّ فشله في الحصول على ما كان يتمنّاه، في تزايد. من ناحية أخرى، لن تخلو الحكومة، التي سيتم تشكيلها وفقاً لهذه الظروف عبر ائتلاف واسع، من تناقضات أو اختلافات في وجهات النظر، ما يجعل البلد الذي يتطلّع إلى تجربة حكم اليساريّين يعيش حالةً من عدم الاستقرار.
ينتظر الناخب الفرنسي حتّى يرى نتيجة تصويته، ويأمل اختلافا. أمّا بشأن العلاقة مع دول الجنوب فقد وعد البرنامج الانتخابي اليساري بتأشيرات أسهل، وبالعمل على تعديل لوائح اللجوء والهجرة والجنسية، بما يجعلها أكثر إنسانية واتّساقاً، وهو ما سيكون له أثر طيب، إن تَحقَّق.