رأي

عن صدى غزّة في ماليزيا وإندونيسيا

كتب سامر خير أحمد في صحيفة العربي الجديد.

حرّكت الحرب الإسرائيلية على قطاع غزّة مياهاً راكدةً في شرق آسيا، كما في العالم كلّه، فانعكست في خطاب إندونيسيا وماليزيا وسلوكهما السياسي بشكل فاجأ السياسيين والدبلوماسيين الغربيين، أخيراً، وبات مُحتملاً أن ينعكس، ليس في طبيعة علاقاتهما السياسية بالولايات المتّحدة وإسرائيل فحسب، بل أيضاً في موقفهما من الصراع الأميركي الصيني. لكن، هل يمكن القول إنّ الحرب ستؤدّي إلى تغييرات جذرية في مواقف هاتَين الدولتَين؛ أي على صعيد تحالفاتهما وعلاقاتهما المتينة مع الغرب أيضاً؟

الواقع أنّه ليس دقيقاً (من حيث المبدأ) الجمع بين هاتَين الدولتَين الإسلاميتَين في شرق آسيا بشأن القضيّة الفلسطينية، إذ بينما اتّخذت ماليزيا عبر عقود فائتة خطاباً مُناصراً للفلسطينيين، واستضافت نشطاء منهم، بمِنْ فيهم كوادر ينتمون إلى حركة حماس، فإنّ إندونيسيا كانت أكثر براغماتية في هذا الشأن، بل توفّرت على علاقات تجارية واقتصادية مع إسرائيل بالتزامن مع خطابها المناصر للفلسطينيين، بل وعلاقات سياسية غير معلنة، حتّى كان ثمّة اتجاه إلى إقامة علاقات دبلوماسية رسمية معها قبيل السابع من أكتوبر/ تشرين الأول (2023)، لكنّ اندلاع الأحداث عطّل ذلك الاتجاه، ودفع إندونيسيا إلى تجميد فكرة العلاقات العلنية مع إسرائيل.

وهكذا، ليس جديداً أن تتّخذ إندونيسيا وماليزيا خطاباً سياسياً مناصراً للفلسطينيين ومدافعاً عن حقوقهم السياسية. لكنّ الجديد هو الذهاب إلى ربط ما يتعرّض له الفلسطينيون في غزّة بعدم احترام الولايات المتّحدة وحلفائها قواعد النظام الدولي، التي يبشرون بالحفاظ عليها في وجه مساعي الصين إلى تحويلها إلى التعدّدية القطبية. تقول ماليزيا وإندونيسيا إنّ الولايات المتّحدة وحلفاءها يكيلان بمكيالَين عند مقارنة ما يتعرّض له الفلسطينيون بما يتعرّض له الأوكرانيون، وهذا يتعارض مع قواعد النظام الدولي، الذي تنفرد الولايات المتّحدة بقيادته، ويُؤشّر إلى عدم مصداقيته.

تقول ماليزيا وإندونيسيا إنّ الولايات المتّحدة وحلفاءها يكيلان بمكيالَين عند مقارنة ما يتعرّض له الفلسطينيون بما يتعرّض له الأوكرانيون

هذا الخطاب الداعي إلى اتخاذ مواقفَ جدّية لوقف الحرب الإسرائيلية على الشعب الفلسطيني في غزّة، بموجب قواعد النظام الدولي تجلّى في كلمتَي وزيري دفاع ماليزيا وإندونيسيا في اجتماعات “حوار شنغريلا” قبل أيام في سنغافورة، وهو منتدى دولي ينعقد سنوياً منذ عام 2002 لبحث موضوعات أمنية بمشاركة مسؤولي الدفاع والأمن من 28 دولة من آسيا والمحيط الهادئ، وضيوف من دول أجنبية وغربية، بل ذهب الوزير الماليزي محمد خالد نور الدين إلى اقتراح دعوة ممثّلٍ عن فلسطين لحضور أعمال المنتدى، بينما أبدى الوزير الإندونيسي برابوو سوبيانتو، الذي جرى انتخابه، أخيراً، رئيساً جديداً لبلاده وسيتولّى السلطة فيها في نوفمبر/ تشرين الثاني المُقبل، استعداده لإرسال قوات لحفظ السلام في غزّة، مُجدّداً في الوقت نفسه مبادرة بلاده لوقف الحرب الروسية على أوكرانيا.

المُهمّ في هذا السياق أنّ وزير الدفاع الصيني قال المضمون نفسه في كلمته أمام المنتدى، فبدا الخطابان، الماليزي والإندونيسي، مطابقان لخطاب الصين في شأن انتقاد ازدواجية المعايير لدى النظام الدولي القائم، وعدم التزام الولايات المتّحدة بتنفيذ “القواعد” فيه؛ أي تطبيق القانون الدولي ومعاييره بالتساوي على الجميع. وحتّى لو كان الأمر لا يشي بتقارب سياسي بين الدولتَين الإسلاميتَين والصين، في شأن مساعي الأخيرة لقلب النظام الدولي، فإنّه على أقلّ تقدير يهدّد مساعي الولايات المتّحدة لدفع كلّ من جاكرتا وكوالالبمور بعيداً عن الصين ومشاريعها الاقتصادية بداعي المخاطر الأمنية للعلاقات مع بكين، والتنافس معها على النفوذ في بحر الصين الجنوبي، خصوصاً أنّ إندونيسيا، التي هي أكثر قرباً من الولايات المتّحدة وتشاركها تحالفاً عسكرياً ضدّ نشاط الصين العسكري، وقّعت على اتفاقيات مبادرة الحزام والطريق الصينية، تماماً كما فعلت ماليزيا، التي تُعرَف بعلاقات أوثق مع بكين.

الحرب على غزّة دفعت إندونيسيا إلى الوقوف على الحياد (حقاً) في شأن الصراع الدولي القائم بين الولايات المتّحدة والصين، بسبب تراجع إيمانها بعدالة نظام دولي تنفرد فيه واشنطن

وهذا يعني أنّ الحرب على غزّة دفعت إندونيسيا إلى الوقوف على الحياد (حقاً) في شأن الصراع الدولي القائم بين الولايات المتّحدة والصين، بسبب تراجع إيمانها بعدالة نظام دولي تنفرد فيه واشنطن، بعد أن كان الحياد مُجرّد خطاب تقليدي للسياسة الخارجية الإندونيسية يستند إلى إرث منظّمة دول عدم الانحياز. ماليزيا، التي تتوفّر أصلاً على علاقات اقتصادية عميقة مع الصين وموقف سياسي حادّ ضدّ إسرائيل والدعم الغربي الذي تتلقّاه، فتحت لها الحرب على غزّة طاقة إضافية للضغط على الولايات المتّحدة في شأن صراعها مع الصين من أجل الحصول على مزيد من المكاسب السياسية والاقتصادية من طرفي الصراع، إذ بينما تعدّ كوالالمبور الشريك الرئيسي والحليف الأوثق للصين في منظّمة دول جنوب شرق آسيا (آسيان)، فإنّها تسعى إلى دفع الولايات المتّحدة للاعتماد عليها في جزء من عمليات تصنيع الرقائق الإلكترونية بديلاً عن الصين، التي تخوض معها واشنطن سجالاً تكنولوجياً يستهدف تعطيل نموّها الصناعي والعسكري، الذي هو أحد أدوات الصراع الدولي الكبير بينهما. كذلك، تريد ماليزيا مواصلة الظهور باعتبارها مدافعاً عن حقوق الفلسطينيين، الذين تنتمي معهم لـ”الأمة الإسلامية”، وهي فكرة تحرّك مواقف ومشاعر الشعب الإندونيسي، والحزب الإسلامي الإندونيسي الذي يسيطر على البرلمان.

لا تنفكّ حرب 7 أكتوبر (2023)، وتداعياتها، تغير خريطة السياسة في العالم إذن، ولا تنفكّ بطولة الشعب الفلسطيني في غزّة وصموده وتضحياته تغيّر مسار التاريخ في الشرق والغرب.

أخبار مرتبطة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى