عن سطوة البيروقراطية في تونس

كتب أنور الجمعاوي في صحيفة العربي الجديد.
تعدّ الأجهزة الإدارية العمومية الفاعلة أساس التنمية الشاملة، وقوام التقدّم في الدول الصاعدة، وعليها التعويل في تنفيذ السياسات العامّة للدولة، وتحقيق برامجها الإصلاحية، وتأمين خدمات ذات جودة عالية للمواطنين، وتيسير نفاذهم إلى المعلومة في وقت قياسي. ومن خصائص الإدارة الناجعة الدينامية والتجديد والشفافية والحوكمة، والقدرة على التكيّف مع تحوّلات العصر، والانخراط بحيوية في أقضية العولمة والثورة الرقمية، حتّى إنّ دولاً كثيرة أصبحت تعتمد نظام الحكومة الإلكترونية والإدارة الذكية في قرن غدا الذكاء الاصطناعي من علاماته الواسمة، وهي إدارة سريعة، دقيقة، فعّالة، حريصة على تعميم الرفاه والازدهار في ربوع الدول التقدّمية. والواقع في تونس، بحسب مراقبين، أنّ الإدارة العمومية، في الغالب، ما زالت تقليديةً محكومة بوطأة البيروقراطية، ولا تضطلع بدور طليعي في تحقيق النهضة الشاملة، وتلبية انتظارات المواطنين وشوقهم إلى غد أفضل. ولذلك تجلّيات عدّة وأسباب جمّة وتداعيات شتّى.
من المفيد الإشارة أوّلاً إلى أنّ رئيس الجمهورية قيس سعيّد دعا مراراً إلى ضرورة إصلاح الإدارة، وأن تضطلع بدور حيوي في خدمة المواطن، وتيسير تحقيق مطالبه، وتأمين وصوله إلى خدمات في أقرب وقت ممكن، قائلاً: “على كل مسؤول، أن يستبطن آمال الشعب التونسي، ويشعر بتطلّعاته، ويسعى إلى إيجاد الحلول العاجلة، وأن يعمل على تذليل الصعاب، ويُبادر باقتراح الحلول، ويعمل على تحقيقها في أقرب الآجال، وأن يشعر أنّه يعمل من أجل الانتصار للثورة وأن يبادر بتذليل العقبات ويعمل على إزالتها… والدّولة بمؤسّساتها لن تقف مكتوفة الأيدي أمام كلّ من يُعطّل السير الطبيعي لدواليبها وتحقيق انتظارات شعبها”. وفي ذلك إدراك لحتمية تحرير الإدارة العمومية من إسار البيروقراطية، وتطوير أدائها على نحو يستجيب لتطلّعات الناس. ومن المفيد التنبيه إلى أنّ القطاع العمومي فيه كثير من الأكفاء المغمورين، وهناك منشآت عمومية نموذجية في مستوى إسدائها الخدمة للمواطنين من بينها على سبيل الذكر لا الحصر المستشفى العسكري، ومستشفى شارنيكول، وإدارة الملكية العقارية، وصندوق التقاعد والحيطة الاجتماعية. كما أنّ الإدارة المركزية لمؤسّسة رئاسة الجمهورية تتفاعل يومياً مع مشاغل المواطنين عبر مكاتب الضبط والعلاقات مع المواطن، وتعمل على إيصال صوته إلى أصحاب القرار، وتقدّمت مؤسّسة رئاسة الحكومة بالقصبة، ووزارة الدفاع ووزارة الداخلية، أشواطاً في مستوى رقمنة خدماتها، على نحو ساهم في تقريب الإدارة من المواطن. لكنّ هذه المنجزات وحدها لا تصنع الربيع. فما تزال كثير من المؤسّسات العمومية رهينةَ تسيير إداري قديم، وعقل بيروقراطي عقيم، ولم تنخرط بعد في عالم الرقمنة، بل ما زالت تحتكم إلى آلية التواصل الورقي التقليدي، على نحو يُهدر كثيراً من الوقت، ويؤخّر تأمين الخدمة لطالبها. وتحتلّ الإدارة التونسية المرتبة 91 عالمياً في مستوى مؤشر الرقمنة، بحسب رئيس المنظمة الوطنية لروّاد الأعمال، ياسين قويعة. وورد في دراسة أجرتها المنظمة المذكورة شملت أكثر من خمسة آلاف شركة صغيرة ومتوسّطة تونسية، أنّ واقع الرقمنة في الإدارة العمومية غير مرضٍ. وأخبرت أن 56% من الخدمات الرقمية تقتصر على ثلاث خدمات، هي التصريح الضريبي والإدلاء بتصاريح الضمان الاجتماعي والتعامل مع منصّة السجل الوطني للمؤسّسات. وبيّن الاستطلاع أن أكثر من 30% من أرباب المؤسّسات يشكون من قصور في البنية التحتية الرقمية ومشكلات أمن تكنولوجيا المعلومات، ونقص التنسيق بين المَرافق الإدارية العمومية.
وبحسب تقارير متواترة تعتمد جلّ المنشآت الإدارية سياسة التسيير اليومي المُرتَجل، ولا تحتكم إلى استراتيجيات طويلة المدى إلاّ قليلاً، ويغتنم بعض الإداريين حالة الأمان الوظيفي، وغياب آليات صارمة للمساءلة والمراقبة البَعدية لأدائهم ليتخفّفوا من لوازم المسؤولية، وليؤجّلوا عمل اليوم إلى الغد، وينخرط بعضهم في دوائر المحسوبية والزبونية، والتعسّف في استخدام السلطة. وتتسم الحالة البيروقراطية في تونس بأربع سمات بارزة، بحسب مراقبين. أولاها، التعقيد من خلال فرض وثائق عدّة وتراخيص كثيرة على باعث مشروع ما أو طالب خدمة ما. وثانيتها، تأجيل تنفيذ المطلوب لمدد طويلة. وثالثتها، تشتيت جهد المواطن بين فروع إدارية عدّة، ولجان فنّية وغير فنّية شتّى. ورابعتها، تعجيز المواطن أحياناً، من خلال فرض شروط قاهرة، غير مقدور عليها من قبيل إثقال كاهله بتكاليف مادّية باهضة أو ما شابه ذلك. ولا تُتيح منشآت عمومية كثيرة لطالب الخدمة أو الوثيقة متابعة مطلبه إلكترونياً من خلال النفاذ إلى موقع المؤسّسة (إن وُجد)، والاطلاع على مدى التقدّم في تنفيذه من بعد، بل يتعيّن عليه الانتقال دورياً إلى مقرّ المؤسّسة ليتفقّد مصير مطلبه. وفي ذلك إهدار للجهد والوقت والطاقة. ويؤدّي هذا الروتين الإداري المركّب عملياً إلى تعطيل طالب الخدمة أو صاحب المشروع وشعوره بالإحباط، ونفوره من الإدارة العمومية، بل التفكير في مغادرة بلد كبّلته البيروقراطية الكريهة.
سهولة الإفلات من العقاب وعدم تنفيذ أحكام المحكمة الإدارية يعزّز من سطوة البيروقراطية، ويجعل بعض الإداريين يعتبرون أنفسهم طبقةً خاصّةً
وعلى سبيل المثال، ما زال كاتب هذه السطور يعاني تجربة مريرة في التعامل مع الإدارة البيروقراطية، فبعد سنة من التسويف والانتظار، أعلمتني شركة الكهرباء (فرع سوسة الشمالية) أنّ علي تركيز محوّل كهربائي (يقتطع مساحة 30 متراً من منزلي وكلفته نحو 30 ألف يورو) على نفقتي الخاصّة لأحصل على النور الكهربائي (!)، والحال أنّي أسكن منطقة بلدية آهلة بالسكّان وعلى مقربة من شبكة الكهرباء، ولم يُفرض على جيراني ذلك الشرط المُجحِف، وكأنّي أملك مصنعاً أو عمارةً شاهقةً (!)، وعندما احتججت، جرى تكليف لجنة ألغت المحوّل، وأقرّت حقّي في الحصول على عدّاد كهرباء واحد، لكن بشرط أن أدفع سبعة آلاف دينار، والحال أنّ غيري من المواطنين يتحصّلون على عدّاد أوّل بمبلغ لا يتجاوز حدود 1400 دينار، وجرى اعتبار منزلي عمارة، والحال أنّ المُشيَّد منها طابق أرضي فحسب، اكتفيتُ به، والمثبّت في رخصة البناء طابق أرضي مع طابق علوي (أوّل وثانٍ)، لا عمارة ذات طوابق كما تزعم الإدارة. ويبدو المراد من فرض مبلغ باهظ لا طاقة لي به للحصول على عدّاد واحد حرماني من حقّي الطبيعي والدستوري في النور الكهربائي، والقصد التعسير، لا التيسير علي. والظاهر أنّ رئيس الجمهورية يريد البناء والتشييد (شعار حملته الانتخابية)، أمّا الإدارة، فتريد التعجيز والتقييد.
من منظور سوسيوثقافي، يُمكن تفسير شيوع البيروقراطية في السياق التونسي بعدّة أسبابٍ، منها هيمنة العقل البطرَيَركي على مؤسّسات عمومية تونسية، وهيمنة أطراف قديمة على هياكل إدارية، ترفض روح التجديد والمبادرة والانخراط في دورة الرقمنة الشاملة، لتحافظ على مصالحها وعلاقاتها الزبونية المشبوهة. ومن المحتمل ميل بعضهم إلى تعسير الأمور على المواطنين، وتعطيل قضاء شؤونهم بغرض تركيم غضب جمعي على المنظومة الحاكمة، وشعور بعضهم بأنّ الراتب الحكومي مضمون والامتيازات الوظيفية كثيرة (مجّانية السيّارة والسكن والماء والكهرباء والبنزين، ومنح مُجزية…)، فضلاً عن أنّ الرقابة البَعدية على الأداء غائبة أو تكاد، ما يزيد من وتيرة التراخي الإداري. كما أنّ سهولة الإفلات من العقاب وعدم تنفيذ أحكام المحكمة الإدارية يعزّز من سطوة البيروقراطية، ويجعل بعض الإداريين يعتبرون أنفسهم طبقةً خاصّةً، فوق النقد، والمساءلة والمحاسبة، ويتحصّن هؤلاء بقانون المصالحة الإدارية والمرسوم عدد 54. يُضاف إلى ذلك أنّ عدم تغيير المديرين، ورؤساء المصالح، ومديري وأعضاء مكاتب الدراسات داخل المنشآت العمومية (كلّ عامين مثلاً) يزيد من تفشّي حالة الجمود الإداري في القطاع العمومي.
ما تزال مؤسّسات عمومية تونسية رهينةَ تسيير إداري قديم، وعقل بيروقراطي عقيم، لم تنخرط في عالم الرقمنة
ومعلوم أنّ لسطوة البيروقراطية في تونس تداعيات عدّة، لعلّ أهمّها تعطيل المرفق العام، وتعثّر القطاع الخدمي العمومي، وعرقلة تحويل النيات الإصلاحية لصانع القرار السياسي من وعد إلى إنجاز، وتدهور البيئة الجاذبة للاستثمار، وتباطؤ وتيرة النمو الاقتصادي، وهجرة الأدمغة ورجال الأعمال، وهروب المستثمرين المحلّيين والأجانب، وتآكل ثقة المواطن في أجهزة الدولة نتيجة الإحساس المتراكم بالغُبن والإحباط بسبب سوء الأداء الإداري. ولوضع حدّ لظاهرة البيروقراطية، من المهمّ، إعمال آليات الحوكمة والشفافية، وتعيين المسؤولين وتثبيتهم من عدمه، بناءً على معايير الكفاءة والخبرة والمردودية الجيّدة، لا على أساس التوريث والولاء والعلاقات الشخصية. ومن الضروري، تفعيل أجهزة التدقيق الداخلي صُلب كلّ وزارة، وتعزيز الرقابة الخارجية على الأداء الإداري، وإحياء مبادرة “المواطن الرقيب”، وحماية المبلّغين عن الفساد. ومن المفيد، تطبيق محامل “الاستراتيجية الوطنية في مجال الإدارة الإلكترونية”، من أجل إحداث حكومةٍ إلكترونيةٍ ورقمنةٍ إدارية شاملة على نحو يسمح للمواطن بالنفاذ الفوري إلى المعلومة، ومتابعة معالجة طلباته من بعد. ومن المهمّ، في السياق نفسه، ترسيخ ثقافة العمل، ووضع آليات لتقييم رضا المواطنين عن الخدمات، وتحليل شكاواهم بجدّية، وعدم التردّد في تحفيز الموظّفين المتألّقين، وإقالة الذين يتعمّدون تعسير الأمور على المواطنين، وتعطيل انتفاعهم بالخدمات العمومية المطلوبة.
عطّلت البيروقراطية التنمية الشاملة في تونس قبل الثورة وبعدها، ولا سبيل لكسب معركة التقدّم وتحقيق الرفاه العام من دون إصلاح إداري شامل. وملخّص القول: “أعطني إدارة تفاعلية مَرنة ناجعة، أُعطِكَ بلداً متقدّماً”.