عن الصين وبداية حقبة جديدة

كتب إميل أمين, في “العربية” :
هل يمكن اعتبار رئاسة شي جين بينغ بمثابة بداية حقبة جديدة لجمهوريّة الصين الشعبيّة، ومنطلقًا جديدًا للصعود الصيني الكبير بعد ماوتسي تونغ ودونغشياو بنغ، العظيمَيْن اللذَيْن أَرْسَيَا قواعدَ لعالمٍ صيني مغاير عمّا عرفه الصينيون طوال آلاف السنين؟
غالب الظنّ أنّ الصين اليوم تخطو وبقوة عبر التاريخ في مرحلة مغايرة، ذلك أنه تزاوج بين الكثير من الأدوات التي تدعم وتزخم عالميّتها في الحال والاستقبال.
ما الذي يدفعنا للقطع بأن الصين بقيادة شي بينغ، على عتبات فترة حاسمة في مسار قطبيّتها الدولية القادمة من دون أدنى شكّ؟
المؤكّد أن المواجهة المحتدمة مع الدوائر الغربية، سواء كانت أوروبية أو أميركية، وربما الروسية، رغم ما يظهر على السطح من تحالف ظاهر بين موسكو وبكين، هذه المواجهة التي تبدو قادمة لا محالة تدفع القيادة السياسية الصينية لتبَنِّي فلسفة صن تزو، حكيم الصين العسكري الأشهر “إن خير وسيلة للدفاع هي الهجوم”.
تبدو الصين هذه الأيام وكأنّها تخرج عن سياق رؤيتها الكونفوشيوسيّة، والتي تتبنى رؤية الكون كوحدة واحدة، حيث الاختلافات مقبولة ومعقولة، لكن داخل الدائرة الكُلّيّة للكون، وذلك على العكس من الرؤية الأرسطية حيث الظاهرة واللاظاهرة لا بدّ لهما من الصدام.
تكاد الصين اليوم تستشعر أنّ هناك مواجهة قادمة ولا شكّ مع الولايات المتحدة الأميركية، لا سيّما في ظلّ إدارة الرئيس دونالد ترمب الثانية.
والشاهد أنه على الرغم من التداخل البنيوي بين الاقتصادَيْن الأميركي والصيني، وتأثير هذا التداخل على حالة الاقتصاد العالمي، إلا أنّ الصينيّين وبرؤيتهم التاريخية لسياقات الأحداث، كانوا على بَيِّنة من أمرهم، ولهذا استعدّوا قولاً وفعلاً لمواجهة “فخثيوسيديديس” القادم حكمًا، وكأن التاريخ يعيد نفسه بين أثينا وأسبرطة قبل الميلاد، وما يتكرّر تاريخيًّا بين أي قوة قطبيّة قائمة وأخرى قادمة.
استهلّ الرئيس ترمب ولايتَه بالعديد من القرارات التنفيذية التي دارت من حولها الكثير من الأحاديث، وفي مقدمها إشكاليّة التعريفات الجمركية التي فرضها على الحلفاء والأعداء دفعةً واحدة.
على أنه لفت الانتظار أن ترمب في حين فرض 25% على واردات السلع والخدمات مع المكسيك وكندا، فإنه فرض 10% فقط على الصين، والتي كانت بدورها تتجَهَّز لمثل هذا القرار من جراء معرفتها بعقليّة الرئيس ترمب، ناهيك عن توجّهاته، بوصفه رجل اقتصاد، بأكثر منه رجل سياسة.
يتساءل المراقبون الاقتصاديون: “هل أشعل ترمب حربًا تجارية مع الصين بنوع خاصّ؟”
يمكن أن يكون الأمر بالفعل على هذا النحو، ذلك أن الصين فرضت بدورها رسومًا جمركيّةً على وارداتها من الولايات المتحدة تدخل حَيِّزَ التنفيذ نهار العاشر من فبراير الجاري، وتصل إلى 15% على الواردات من الفحم ومنتجات الغاز، و10% على النفط الخام والآلات الزراعية والسيارات ذات المحرّكات الكبيرة.
يتّهم الرئيس ترمب الصينيين بأنّهم وراء إدخال مخدر “الفنتانيل” القاتل إلى بلاده عبر المكسيك وكندا، في حين ترفض الصين هذا الاتّهام، وتعتبره مسألة أميركية داخلية لا دَخْل للصين أو الصينيّين فيها.
على أنّ الصين وإن اتّخذت الطرق القانونيّة من خلال اللجوء إلى منظمة التجارة العالمية، إلا أنها في واقع الأمر تجهّزتْ منذ زمن طويل للصراع القادم تجاريًّا مع الولايات المتحدة، وليس أدلّ على صدقية هذا الحديث من توجُّهها لبناء طريق الحرير الجديد، وذلك عبر مبادرة “الطريق والحزام”.
عَزَّزَتْ الصين بالفعل من حضورها العالميّ، عبر بلورة رؤية لتجمع البريكس العالميّ بدايةً، ثم البريكس بلس لاحقًا، ورغم العقبات الأميركيّة التي تواجه مسار هذا التجمع، إلّا أنه بحالٍ من الأحوال، يمكن النظر إليه على أنّه مدار احتياطيّ للكثير من الدول الراغبة في الفكاك من الضغوطات الأميركيّة التي تلحق بالقصيّ والداني، الحليف والعدُوّ على حدٍّ سواء.
ضمن الحقبة الصينية الجديدة، طَفَتْ على سطح العلاقات الصينية الدولية، أزمةٌ مع أوروبا السنوات القليلة الماضية، أي في وقت انتشار فيروس كوفيد المستجَدّ.
بدت الصين قبل خمسة أعوام على عتبات فترة جديدة من السخاء والرخاء مع دول الاتّحاد الأوروبّيّ، إلى درجة أن بعض دول الاتّحاد مثل إيطاليا، ألقت بنفسها وبثقلها في رحم الصين، الأمر الذي أزعج الكثير من الدول الأوروبية.
غير أن الهشاشة التي بدت عليها الحياة السياسيّة الصينيّة في ذاك الوقت، والغموض الذي خَيَّمَ على الأجواء الصينية وتسَبَّبَ في الكثير من الأذى والموت للأوروبّيّين، قد أدّى إلى تراجع الرغبة في التحالف مع الصين.
على أنه ورغم هذه الكبوة، استطاعت الصين أن تُوَثِّقَ علاقاتها مع روسيا الاتّحادية، وجاءت الحرب الأوكرانيّة لتقدم للصينيين فرصةً على طبق من ذهب للتحالف مع روسيا على أمل الحصول على المزيد من النفط الروسي، ومن الأسلحة الروسية المتقدمة.
هذا التحالف مَكَّنَ الصينيّين من الانفلات في أوساط العديد من الجمهوريّات السوفيتيّة السابقة، الأمر الذي له مردودٌ اقتصادي كبير عليها، وما يمكّنها من ترويج سِلَعها ومنتجاتها في دولٍ كثيفة السكان.
على أن الحقبة الصينية الجديدة باتت مرهونة بتقدُّمَيْن، صناعيّ عسكريّ، وصناعيّ ذكائيّ إن جاز التعبير، ما يعني أن بكين تعبر الضفّة الأخرى من عالم آخر قادم لا محالة.
باختصار غير مُخِلّ، وخلال أقلّ من شهر أعلنت الصين عن مجالين هائلين أبدعَتْ فيهما.. ماذا عن ذلك؟
المجال الأول هو إعلانها عن الدخول في عالم الذكاء الاصطناعي بقوة، من خلال الكشف عن “ديب سيك” ذلك المكتشف الذي يتجاوز قدرات نظيره الأميركي المعروف بـ”تشات جي بي تي”، وهذا يعني أن الصراع مع الولايات المتحدة دَلَفَ إلى منطقة “الصراع التقني والتكنولوجي” هذا الذي سيحدّد مآلات العالم الجديد القادم خلال عقود.
وعلى مقربة من الـ”ديب سيك”، بدا أن هناك أمرًا فيزيائيًّا هزَّ العالم هزًّا، تمَثَّلَ في قيام مفاعلات الصين النوويّة الاندماجيّة، بالوصول إلى أعلى نقطة في مجال توليد الطاقة من الاندماج الذرّيّ، وهو المرحلة الأكثر أهميةً من الانشطار النوويّ، سيما أن الطاقة المتولّدة عن الاندماج، يمكنها أن تستنقذ العالم من التغيرات المناخية بسبب ثاني أكسيد الكربون الذي يملأ الأجواء الكونيّة.
على الصعيد العسكريّ، تبدو الصين قادمةً وبقوة، في إطار تشكيل ترسانة صاروخية نووية، تغَيّر الأوضاع وتبدّل الطباع، وتعيد تشكيل التوازنات الجيوسياسية والنووية مع الولايات المتحدة من جهةٍ، وروسيا من جهةٍ ثانية، بل ربّما وفي ظلّ الطاقة النوويّة الاندماجيّة تتجاوزهما.
هل كانت الصور التي التقطَتْها الأقمار الاصطناعيّة للمجمع العسكريّ الضخم والأكبر من البنتاغون بعشر مرات، الذي تبنيه الصين في غرب بكين، دلالةً على أن الصين تتجَهَّزُ لصراعٍ ربّما ينحو لأن يكون نوويًّا في القريب العاجل؟
تظهر الأقمار الاصطناعيّة التي حصلت عليها صحيفة فاينانشيال تايمز والتي تخضع لفحص المخابرات الأميركية موقع بناء مساحته حوالي 607 هكتارات على بعد 30 كيلومترًا جنوب غرب بكين مع حُفَرٍ عميقة يُقَدِّر الخبراء العسكريّون أنّها ستضم مخابئ كبيرة ومحصَّنة لحماية القادة العسكريّين الصينيّين خلال أيّ صراعٍ بما في ذلك الحرب النووية المحتمَلة.
هل الصين تتحسّب لفَخّ ثيوسيديدس المسرع في طريقه لا يلوي عليه شيئًا؟