رأي

عن التعذيب في لبنان تقليداً قديماً

كتب يقظان التقي في “العربي الجديد”:

تفاعلت مأساة وفاة شاب سوري تحت التعذيب داخل مركز لجهاز أمن الدولة في جنوب لبنان، أمنياً وقضائياً وسياسياً، وأعادت طرح ملف التعذيب في مراكز التوقيف الاحتياطي، وسلوكيات سيئة لبعض الأجهزة في التحقيقات… توفي الموقوف السوري بشارعبد السعود، ساعات قليلة بعد اعتقاله. وكان الأمنيون يحققون معه للاشتباه بأنه “يقود شبكة إرهابية من خلايا داعش”. تُظهر صورة جثة المغدور التي تناقلتها الوسائط الاجتماعية ووسائل الإعلام كافة آثار التعذيب المبرّح الذي تعرّض له وخريطة تعذيب جسدي شاملة كل سنتميتر من جسده الذي تحوّل خطوط ترشيم حمراء، ما يضيّق لغة الكلام، من الكلام إلى الصرخات، ومن الصرخات إلى صوت الجسد المضروب بقسوة عاهة الفاعلين. جسد يضيق فيه المكان اللبناني على المقيمين، ويختزلهم إلى حد إلغائهم.

سارع جهاز أمن الدولة إلى إصدار بيان يخفف من وطأة الحادثة وتبعاتها جاء فيه إن “المتوفى، وأثناء التحقيق معه، اعترف بدوره بأنه ينتمي إلى تنظيم داعش الإرهابي، وأنه كان من عِداد مقاتليه، ويدين بالولاء له، وأن المديرية العامة لأمن الدولة سارعت إلى وضع هذه الحادثة بيد القضاء المختص، وإجراء المقتضى القانوني بإشرافه، وإنها تحرص دائماً على المصداقية وعدم خلق ظروف متوترة، في هذه المرحلة الصعبة والخطرة من تاريخ لبنان، بسبب الأوضاع الأمنية والسياسية والاقتصادية والاجتماعية”. ووضع مفوض الحكومة لدى المحكمة العسكرية القاضي فادي عقيقي يده على الملف، وأشرف على التحقيقات الأولية في هذه القضية، حيث انتقل إلى مستشفى تبنين الحكومي وعاين جثة الضحية، كما عاين باقي الموقوفين في النظارة من أعضاء المجموعة وموقوفين بقضايا أخرى. وعُلم أنه أمر بـ”احتجاز الضابط الذي يرأس مكتب أمن الدولة في تبنين وأربعة من عناصر المكتب على ذمة التحقيق، وإجراء التحقيق معهم ومع آخرين لتحديد المسؤوليات واتخاذ الإجراءات المناسبة بحقهم”. وقد أثبت تقرير الطبيب الشرعي أن الموقوف السوري مات نتيجة التعذيب، وأن “قلب الموقوف السوري بشار عبد السعود توقف جرّاء الصدمات القوية التي تعرّض لها”.

بلد مروّع، يخطو خطوات انحدارية نحو الانهيارات الشاملة في كل تفاصيل الحياة اليومية

بمعزل عن البيان، تكشف الحادثة كم أن لبنان من عالم قديم انتهى. بلد مروّع، يخطو خطوات انحدارية نحو الانهيارات الشاملة في كل تفاصيل الحياة اليومية وأشيائها فيه، كأنه تكثيف العدم، في صورة العجز المطلق عن التغيير في بنى وهيكلية عمل أجهزته الأمنية، كما مؤسّساته السياسة. .. ولماذا البحث عن مآس جديدة في بلد مكتظ بالمآسي أصلا؟ ليس العمل السيئ طائشا، أو ملتبسا على سلوكياتٍ تحتفظ بمواصفاتها الشاملة، منذ ايام الوصاية السورية على لبنان، وقبلها منذ أيام المكتب الثاني.

أنعشت الحادثة ذاكرة اللبنانيين بصور من “قصر نورا” أعلى محلة الشفروليه، وأصوات المعذبين المتصاعدة التي وصلت أيضا إلى أسماع أهالي تبنين المجاورين للمخفر، كأنه استحداث فروع لامركزية. لم تتغيّر أشياء كثيرة، مع قصص آلاف المعتقلين اللبنانيين المخفيين في سجون التعذيب السورية، انضمت إلى سوريالية تهديم حياة وموت عشرات الآلاف من المعتقلين السوريين في صناعة الموت والحرب الدموية. عندما تموت الأفكار، لا مجال للحديث عن مشاعر إنسانية، أو جسد إنساني، فلا يجدي أي كلام مثل “إلقاء القبض على خلايا تابعة لتنظيم داعش تنشط ما بين جنوب لبنان وبيروت، وتنشط لترويج العملات الأجنبية المزيفة والمخدرات، بهدف تمويل عملها”. في الصورة المعروضة علينا للشاب السوري مسرح تعذيب، كأنه مسرح بيكيت، مسرح وحدة الإنسان وعزلته، إزاء مصيره الأسود وقدريته أنه في لبنان أو في سورية أو فلسطين المحتلة.

أنعشت الحادثة ذاكرة اللبنانيين بصور من “قصر نورا” وأصوات المعذبين المتصاعدة منه

وندّدت لجنة حقوق الإنسان التابعة للأمم المتحدة بحادث وفاة الموقوف السوري، معتبرة أن “مثل هذا العمل جريمة نكراء في حق الإنسان أياً تكن جنسيته وانتماؤه”. وكان لبنان قد صادق على اتفاقية مناهضة التعذيب التي اعتمدتها الجمعية العامة للأمم المتحدة، ولاحقاً البروتوكول الاختياري، وأقر القانون 65 العام 2017 المتعلق بمعاقبة التعذيب، وغيره من ضروب المعاملة أو العقوبة القاسية أو اللاإنسانية أو المهينة، واستحدث الهيئة الوطنية لحقوق الإنسان المتضمنة لجنة مناهضة التعذيب. لكن سلطاته لا تزال تتقاعس عن توفير كل ما يتيح لها البدء فعلياً بعملها وترجمة هذا القانون، والنتيجة رتابة في الكلام عن التأهيل للقوى الأمنية. التأهيل فكر رجعي يعني تكرار الأشياء القديمة من دون تغيير. النتيجة أن كل أخبار الأجهزة الأمنية تبقى في التباساتها، ولا سيما في الحديث عن عودة ألف مقاتل (سنيّ) إلى لبنان، كانوا يقاتلون في صفوف الجماعات المتشدّدة في سورية، ما يستدعي ورشة نقاش واسعة في البرلمان لدعم، أو مراقبة إجراءات حكومة مستقيلة إزاء ملفٍّ شديد الحساسية. لا مجال لمقارنة هذا الملف الضخم مع مثيل له يتعلق بعودة أطفال مقاتلين أجانب في سورية، استغرق نقاشات واسعة في فرنسا بين البرلمان وقصر الإليزيه والمجتمع الفرنسي، لجهة مسألة قانونية إعطائهم الهوية الفرنسية.

من خارج هذا النقاش، لا تعرّض لمشكلة آلاف المقاتلين من حزب الله الذين يعبرون الحدود يوميا للقتال في سورية؟ كأن لبنان تفجر دفعة واحدة، كصور متجمّدة، علامات صاعدة حيث تعثر فيه على كل ما يتباعد، أو يتنافر. من جهة جنون بعض الدادائيين، من سياسيين وأمنيين والبيانات الرسمية الصارمة. ومن جهة أخرى، صور يومية، في غضبها وعنفها وصراخها القاسي. كيف يمكن معايشة هذا العراك في الزمن اللبناني مجهول الإقامة. التباس في الداخل، والتباس في الخارج، وعمليات تعذيب يومية، وحتى الموت باستمرار. كأن حقوق الإنسان اختراع جديد بالقياس إلى التاريخ الذي يشهد تواطؤ العدالة الوطنية والعدالة الدولية في معركة تطبيق القوانين.

أخبار مرتبطة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى