عندما يغيّر الرئيس التونسي المشهد الحكومي قبيل الانتخابات الرئاسية
كتب جمال طاهر في صحيفة العربي الجديد.
أجرى الرئيس التونسي المنتهية ولايته قريباً، قيس سعيّد، تغييراً حكومياً شاملاً بدأه بتغيير رئيس الحكومة، ثم أعقبه بتغيير الوزراء، محتفظاً فقط بوزراء الداخلية والعدل والمالية. ثم أعلنت رئاسة الجمهورية في ساعة متأخرة من ليلة الأحد 08 سبتمبر/ أيلول الجاري قرار الرئيس إدخال تغيير كلي تقريباً في سلك الولاة (المحافظين).
لم يُفاجأ التونسيون من هذه التغييرات، لأنهم تعوّدوا من سعيّد تغيير المسؤولين، بمن فيهم الذين اختارهم وعيّنهم، من دون أن يعرفوا لماذا عزل السابقين، وعلى أي أساس اختار الجدد… وتأتي الجدّة في العزل والتعيين هذه المرّة في توقيت التغييرات، وحجمها، ونوعها، وأخيراً سياقها.
من حيث التوقيت، جاءت هذه التغييرات وقد دخلت تونس زمن الانتخابات الرئاسية المزمع إجراؤها يوم 6 الشهر المقبل (أكتوبر/ تشرين الأول)، في مخالفةٍ لما جرت به العادة. في وقت كان الشارع السياسي التونسي ينتظر من قيس سعيّد، المرشّح للانتخابات، أن يدير ما تبقى من ولايته مقتصداً في ممارسة الصلاحيات، واتخاذ القرارات ومنها التعيينات، وأن يتّخذ إجراءات تجعل مؤسّسة رئاسة الجمهورية أقرب إلى مؤسّسة تصريف أعمال، يأخذ فيها الرئيس المباشر مسافة من ممارسة مهامه العادية تجعله أقرب إلى كونه مرشّحاً مثل بقية المرشّحين، يخوض حملته الانتخابية وفق إمكاناته الذاتية، بعيداً عن استغلال إمكانات الدولة المادّية واللوجستية وتوظيفها.
إقدام قيس سعيد على ما يُخالف القانون الانتخابي، وعدم ردّه على الانتقادات، رسالة واضحة منه، أكّد فيها ما كان قاله سابقاً إنه “كائنٌ فوق القانون”
ربّما انتظر الرأي العام من قيس سعيّد أن يتخذ مثل هذه الإجراءات، لأنها تنسجم مع سرديّته التي خاض بها حملته الانتخابية السابقة (2019)، وعمودها نظافة اليد والزهد في استعمال المال العام، والتعويل فقط على إمكاناته الذاتية وتبرّعات أنصاره. أسقط سعيّد هذه السردية منذ اللحظة التي اختار فيها أن يعلن ترشّحه لولاية ثانية يوم 19 يوليو/ تموز الماضي من برج الخضراء في أقاصي الجنوب التونسي التي انتقل إليها على نفقة رئاسة الجمهورية، كما بُثّتْ كلمته على صفحة رئاسة الجمهورية. ورغم موجة الانتقاد العالية والواسعة التي قوبلت بها هذه الخطوة “المفاجأة” من قيس سعيّد، لم يصدُر أي توضيح أو تفسير منه ولا من مصالح رئاسة الجمهورية، كما أن هيئة الانتخابات المعيّنة منه لم تبد أي موقف، رغم أن ما قام به سعيد مخالفة انتخابية صريحة وفجّة بحسب القانون الانتخابي، وبحسب التراتيب الانتخابية التي ضبطتها الهيئة نفسها.
كان واضحاً أن إقدام قيس سعيد على ما يُخالف القانون الانتخابي، وعدم ردّه على الانتقادات، رسالة واضحة منه، أكّد فيها ما كان قاله سابقاً إنه “كائنٌ فوق القانون”، وإنه يجيز لنفسه ما يمنعه القانون عن غيره، لأنها ببساطة “كائنٌ من عالمٍ آخر” لا يشبه عالم البشر، ولا يسأل عما يفعل، وهي المعاني التي أكّدتها لاحقاً الإجراءات التي اتّخذها المتعلقة بتغيير رئيس الحكومة أولاً، ثم تغيير أعضاء الحكومة، وأخيرًا تغيير المحافظين والبلاد على مسافة شهر من انتخابات 6 أكتوبر.
بهذا المعنى، يبدو توقيت التغييرات عادياً من منظور قيس سعيّد، رغم مخالفته الأعراف والمزاج العام، فالزمن ليس ما تحدّده السياقات والأعراف، وإنما الزمن عند قيس سعيّد هو ما يحدّده هو فقط.
ويعكس قرار قيس سعيّد القيام بهذه التغييرات النوعية والشاملة للفضاء الحكومي، مركزياً وجهوياً، رؤيته لنفسه وللانتخابات من أصلها. أما عن نفسه، فهو “مبعوث العناية الإلهية” القادم من عالم آخر، الغريب في قومه كصالح في ثمود الذي “لو كان سيختار لما اختار أن يكون رئيساً ولا مرشّحاً رئاسياً، وحين يدعوك الواجب الوطني فلا مجال للتردّد ولا مجال إلا لأن تقول إنني استجبت ولبّيت”. في مقابل هذه النظرة “القدسية” إلى الذات، وبهذا اليقين وهذه القطعية، ينظر سعيّد إلى منافسيه أنهم خونة وفاسدون ومتآمرون ووكلاء لجهات خارجية لا تريد خيراً بتونس وبالتونسيين، يريدون إفساد ما يقوم به وتعطيل حركة التحرّر الوطني التي يقودها باسم الشعب.
لا الزمن الانتخابي ولا السياق الانتخابي ولا الانتخابات تعني شيئاً لدى سعيّد
بناء على هذه الرؤية إلى ذاته وغيره، لا يرى قيس سعيّد الانتخابات استحقاقاً يقدّم فيه المترشّحون عروضهم السياسية، ويتنافسون في إقناع الناخبين بشخصهم ومشروعهم، وربما فريقهم أيضاً، ويقبلون في الأخير بنتيجة الصندوق، باعتبارها عاكسة لإرادة الناخبين الحرّة، وآلية للتداول السلمي على السلطة. لا يؤمن قيس سعيّد بالانتخابات، ولا يهتم كثيراً بنتيجتها، وإذا ما أُجبر على إجرائها فلن يقبل أن تُجرى على مقتضى المعايير المتعارف عليها الضامنة نزاهتها وشفافيتها، وإنما على مقتضى هندسةٍ هو وحده من يحدّد معالمها، رغم أنه أحد المترشّحين، ويفرض على هيئة الانتخابات والإدارة (وزارات العدل والداخلية وتكنولوجيا الاتصال) تنزيلها وفرضها، مهما كانت الاعتراضات عليها حتى ولو جاءت من مؤسّسات رسمية مثل المحكمة الإدارية.
تقتضي عقيدة قيس سعيّد السياسية رفض المنافسة، لأنه لا شبيه له حتى ينافسه أحد، كما لا تهمّه نتيجة الصندوق، لأنه فوق الاختبار، ولأنه قدر السماء المصطفى لإنقاذ تونس والبشرية من جحيم الفساد والظلم من خلال مشروعه السياسي ومحوره البناء القاعدي.
مؤدّى هذه القراءة للتغييرات التي أقدم عليها قيس سعيّد في عمق الزمن الانتخابي أنها جاءت خارج سياق الانتخابات الرئاسية الذي كان “يفرض” تأجيلها إلى ما بعد الانتخابات، وتنزيلها في إطار برنامج الرئيس للمرحلة المقبلة، فلا الزمن الانتخابي ولا السياق الانتخابي ولا الانتخابات تعني شيئاً لدى سعيّد.
من زاوية أخرى مختلفة، يرى متابعون للشأن التونسي أن هذه التغييرات، من حيث توقيتها وحجمها ونوعيتها، تأتي في صميم السياق الانتخابي، وأنها حركة قاصدة وهادفة، ولكنها من خارج إرادة قيس سعيّد، وأنها جزء من ترتيبات مرحلة ما بعد الانتخابات، وأنها من تدبير جهة “نافذة” ومتحكّمة حريصة على مواصلة المسار، بسياسة وفريق جديدين.
يدرك الجميع أن قيس سعيّد أوصل تونس إلى مشارف الانهيار الاقتصادي والاحتراب الأهلي
الجديد في التعيينات أخيراً أنها جاءت واسعة، شملت الفضاء الحكومي بمستوييه، المركزي (الوزراء) والجهوي (محافظي الولايات). ربما تكون دلالة ذلك بحسب زاوية النظر هذه، البحث عن فريق كامل لقيادة الحكم يتّصف بالانسجام من حيث تكوينه الإداري وبالخبرة والكفاءة من حيث سابقة تعامله مع ملفات الدولة والحكم. المعيّنون الجدد، بمن فيهم رئيس الحكومة نفسه، جاؤوا من الإدارة، ومن خارج السياسة والأحزاب، على خلاف الذين سبق أن عيّنهم قيس سعيّد، خاصة منذ 25 يوليو/ تموز 2021 بطريقة غلب عليها العشوائية والمزاجية، جاء جميعهم تقريباً من خارج السياسة، إلا الولاء له ولمشروعه، ومن خارج الإدارة، فكانت النتيجة فشلاً ذريعاً في إدارة الحكم وفوضى غير مسبوقة في الإدارة، وتعطّلاً يكاد يكون كلياً للمرفق العمومي.
يبدو، بحسب هذا التقدير، أن الحصيلة الصفرية من الإنجازات والفوضى العارمة في الإدارة وتعمق الأزمة الاقتصادية الاجتماعية عوامل ساهمت من تعاظم المخاطر على ديمومة المسار، خاصة في سياق الانتخابات الرئاسية، ما دفع جهة معيّنة نافذة إلى أخذ زمام المبادرة من قيس سعيّد، ربما في إطار مبادلةٍ تقضي بإعادة انتخاب قيس سعيّد لولاية ثانية، شرط تأخر قيس سعيّد عن ممارسة الحكم والصلاحيات، وفسح المجال لهذه الجهة لهندسة المرحلة المقبلة، وتدبير ما يتعلق بها من سياسات وتعيينات.
يدرك الجميع أن قيس سعيّد أوصل تونس إلى مشارف الانهيار الاقتصادي والاحتراب الأهلي، وهو وضع لا يحتمله شركاء سعيّد من قوة صلبة وغيرها، ومن داعميه في الداخل والخارج. تأتي هذه المبادلة لإنقاذ قيس سعيّد من نفسه، ومن الهزيمة في الانتخابات، ولإنقاذ المسار من الانهيار والشركاء من المحاسبة، ولإغلاق الطريق نهائياً أمام التغيير والتداول عبر الانتخابات، لما يمثّله ذلك من نفس جديد للربيع العربي، وإعادة الاعتبار للحرية والديمقراطية، وهو ما لا يرضاه النظام العربي والأطراف الدولية.
لا يبدو أن التغيير المنشود في تونس سيكون قريباً، لأن شروطه لم تنضج بعد بما فيه الكفاية
إذا كانت التعيينات أخيراً معبّرة، من وجهة النظر الأولى، وصادرة عن قيس سعيّد ومعبّرة عن أجندته، فإنها، بحسب وجهة النظر الثانية، خارجة عن إرادته، ومعبّرة عن مبادلة من تدبير جهة “نافذة” ومعنية بمستقبل البلاد وحريصة على تجاوز المآزق التي أوصل إليها سعيّد البلاد والمسار. يكون تجاوز هذا المأزق بأمرين: احتواء الغضب السياسي والقلق الشعبي المتزايد من أداء قيس سعيّد عبر محاولة بناء صورة جديدة للمشهد الحكومي، يبدو فيها أكثر كفاءة وخبرة وأبعد عن الولاء لشخص الرئيس ومشروعه. واحتواء الزخم الكبير الذي رافق المسار الانتخابي منذ بدايته وفي مختلف أطواره، وهبّة المعارضات السياسية والقضائية والمواطنية ضد طريقة إدارة قيس سعيّد العملية الانتخابية المخلّة بكل الشروط التي تضمن سلامة العملية الانتخابية ونزاهتها وشفافيتها. هذا الزخم وهذه الهبّة قضمتا كثيراً من حظوظ قيس سعيّد في الفوز بولاية ثانية، وإذا ما تركا بدون احتواء فسيؤدّيان، على الغالب، إلى هزيمة سعيّد، وإلى انهيار كل ما حصل منذ 25 يوليو/ تموز 2021.
أخيراً، يبدو أن الجميع، ما عدا قيس سعيّد، في الموالاة والمعارضة، مدركون أن كلفة بقاء الرجل في الحكم لولاية ثانية، بالمقاربة نفسها وبالأداء نفسه، ستكون عالية جداً على تونس، بما يعرّض مستقبلها لمخاطر حادّة وسيئة، قد تصل إلى الفوضى وتفكّك الدولة والاحتراب الأهلي. لهذه الاعتبارات، لا يبدو أن التغيير المنشود في تونس سيكون قريباً، لأن شروطه لم تنضج بعد بما فيه الكفاية، ومنها تغيّر ميزان القوة بين الحكم والمعارضة لصالح التغيير، ومنها الطلب الشعبي للتغيير الذي يبدو أنه لا يزال ينضج ببطء، نتيجة تأخّر المعارضة في تقديم عرض سياسي واقتصادي اجتماعي بديل، ينال ثقة التونسيين، ويبعث فيهم أملاً جديداً بأن مستقبلهم أفضل من واقعهم… ما يجري منذ انطلاق المسار الانتخابي مهمّ جداً، والأهم منه البناء والمراكمة عليه، وهذه طريق صعبة وطويلة، تحتاج إلى ثقافة سياسية جديدة ووضوح في الرؤية ونظافة في المنهج وجملٍ سياسية معبّرة وجامعة.