عندما يعيّن قيس سعيّد سارة الزعفراني رئيسة للحكومة

كتب سالم لبيض في صحيفة العربي الجديد.
لم يتّعظ الرئيس التونسي قيّس سعيّد من تعيين نجلاء بودن رئيسة للحكومة التونسية (11 أكتوبر/ تشرين الأول 2020- 1 أغسطس/ آب 2023)، ويستخلص الدروس والعبر من فشلها في إدارة أحد أسمى مناصب الدولة، فعيّن وزيرتها للتجهيز سارة الزعفراني الزنزري (62 عاماً)، في المنصب نفسه. ليس في المسألة وصم جندري، أو حطّ من قيمة المرأة ومدى قدرتها على تولي ثاني أهم منصب في ما باتت تسمّى الوظيفة التنفيذية. وإنما يتعلّق الأمر بتشابه في البروفايل العلمي والمهني للشخصيّتين (شهادة في هندسة الأشغال العامة والجيولوجيا للأولى والهندسة المدنية للثانية)، وتماثل في غياب التجربة السياسية وعدم الدراية بالشأن العام، وضعف المعرفة بالمجتمع والدولة والنواميس والقواعد المنظّمة لكليهما، وخلو السيرة الذاتية من أي ممارسة نضالية حزبية أو مدنية، أو من نشاطٍ نسوي، أو قدراتٍ اتصالية وتواصلية، ما قد يعطي للاختيار الرئاسي مبرّرات موضوعية.
تشي بيوغرافيا الرئيسة الجديدة للحكومة التي أُعلن عن توليها المنصب في بلاغ (بيان) رئاسة الجمهورية التونسية في صفحتها على منصة فيسبوك فجر يوم 21 مارس/ آذار الجاري، وجاء فيه “قرّر رئيس الجمهورية قيس سعيّد مساء يوم الخميس 20 مارس 2025 إنهاء مهام السيد كمال المدّوري رئيس الحكومة، وتعيين السيدة سارة الزعفراني الزنزري خلفا له”، بأنها حاصلة على شهادة مهندس في تخصص الهندسة المدنية من المدرسة الوطنية للمهندسين بتونس، وعلى الماجستير في الهندسة الجيوتقنية من جامعة هانوفر الألمانية. وقبل تعيينها وزيرة للتجهيز والإسكان في حكومة نجلاء بودن في أكتوبر/ تشرين الأول 2021، تدرّجت الزعفراني في عدّة خطط فنية وإدارية في وزارة التجهيز، التي انتدبت للعمل بها سنة 1989 مهندسة أولى في إدارة الدراسات الفنية، ثم رئيسة إدارة المنشآت الخاصة، فنائبة مدير البرمجة في إدارة الجسور والطرقات.
وفي 2014 شغلت الزعفراني خطّة مديرة عامة لوحدة متابعة إنجاز مشاريع الطرقات السيّارة، وأتاحت لها هذه الخطّة أن تكون مستشارة مكلفة بمهمة لدى كل وزراء التجهيز والإسكان من أسلافها الذين تولوا الوزارة في فترة طويلة من عشرية الثورة التونسية (2011-2021)، على غرار الوزير محمد صالح العرفاوي (2015 -2018)، المحسوب على حزب نداء تونس، ونظيريه نور الدين السالمي والمنصف السليطي (2018-2020)، المنتميين إلى حركة النهضة، وأن تكون الخبيرة الرئيسية في مجال الطرقات والجسور، حتى أنها كانت دائمة الحضور في مجلس نواب الشعب ضمن الفرق الوزارية للتجهيز، سواء في اجتماعات اللجان البرلمانية أو في أثناء الجلسات العامة، منذ انتخاب أول برلمان للثورة التونسية سنة 2014 إلى حلّه سنة 2021. هذا من دون نسيان ما يوجبه المنصب الحكومي الرفيع من محسّنات بيوغرافية تقتضيها الوظيفة الحكومية مثل تلقي المعنية دورتين تكوينيتين، الأولى بمعهد القيادة الإدارية بالمدرسة الوطنية للإدارة 2018-2019، والثانية بمعهد الدفاع الوطني 2019-2020، وهي دورات تقليدية يتلقاها سنويا مئات الإداريين والموظفين السامين في الدولة.
يبدو أن لساكنة قصر القصبة الجديدة القابلية لأن تكون تابعة للرئيس سعيّد ومطيعة له، محجمة عن الكلام، من دون أدنى نقاش أو اعتراض
ولكن أهمية السيرة الذاتية لرئيسة الحكومة الجديدة فنيا وفي هندسة الجسور والطرقات دون سواها لا تمنحها المشروعية لتولي هذا المنصب الرفيع، فهي لم تعط الدليل بأن لها معارف وخبرات في غير مجال الطرقات والبنية التحتية. إذ لم تُعرف لها آراء مصرّح بها أو مواقف صدعت بها أو أعمالا نشرتها أكاديمياً في دوريات علمية محكمة، أو مؤلفات فردية أو جماعية أو مقالات رأي أثثت بها الصحف الورقية والإلكترونية، تشرح فيها مقاربتها في إدارة الدولة ومصالحها الحيوية في المسائل المالية والجبائية والجمركية والمديونية المشطّة والاقتصاد والتنمية والتشغيل والصحة والأمن الداخلي والخارجي والعلاقات الدولية والصراعات الإقليمية وقضايا الإرهاب. كما أنها لم تعبّر عن موقفها من الغطرسة الصهيونية وحرب الإبادة على غزّة والوضع الحارق للأفارقة جنوب الصحراء في تونس والعلاقات المتوترة مع المغرب والنزاعات في لعبة الأمم، وخيارات تونس الاستراتيجية وما جرى توقيعه من اتفاقيات الشراكة مع الاتحاد الأوروبي ومذكرات التفاهم مع الولايات المتحدة وقضايا التربية والتعليم العالي والبحث العلمي والإصلاح التربوي والبيئة والجماعات المحلية والأمن الزراعي والغذائي، وسبل التعامل مع وسائل الإعلام والاتصال المحلية والدولية، والأسعار المشطّة وندرة المواد الأساسية، ومطالب المعارضة المتعلّقة بالحرّيات العامة والفردية وإبطال العمل بالمرسوم عدد 54 السالب للحريات وإطلاق سراح مساجين الرأي والسياسة والإعلام والتدوين، وكل ما على المسؤول السياسي في الدولة أن يكون على دراية به وبتفاصيله وحيثياته ومآلاته، ناهيك أن يكون هذا المسؤول الشخصية الثانية في منظومة الحكم.
لا شيء من سلسلة المسائل السياسية وغير السياسية الطويلة والمعقدة للزعفراني باع فيها أو دراية ومعرفة، وهذا ما سيجعل منها أسيرة لدى مستشاريها، ومن رئاسة الحكومة مجرّد فرع إداري من فروع رئاسة الجمهورية، تنفّذ تعليمات الرئيس وأوامره وقراراته، وتطبّق سياساته وتشريعاته، من دون أن تكون لها شخصيّتها السياسية المميّزة وبرنامجها الحكومي الذي يعطي للخطّة التي تتولاها معنى، حتى أنها باشرت وظيفتها بالإشراف على اجتماع للحكومة، في يوم توليها المنصب، من دون تنظيم مؤتمر صحافي أو إصدار بيان حكومي يتضمّن الخطوط العريضة لتوجهاتها وبرامجها.
ويبدو أن لساكنة قصر القصبة الجديدة القابلية لأن تكون تابعة للرئيس سعيّد ومطيعة له، محجمة عن الكلام، من دون أدنى نقاش أو اعتراض، كما كانت طوال السنوات الأربع المنقضية، وهي تشغل خطة وزيرة التجهيز والإسكان، خاصة بعد سماعها، قبل توليتها بسويعات، في أثناء انعقاد مجلس الأمن القومي يوم 20 مارس/ آذار الجاري، قول الرئيس سعيّد “إن الحكومة أو الوزارة الأولى أو كتابة الدولة للرئاسة كما كانت تسمّى (أثناء حكم الحبيب بورقيبة 1957-1970)، هي مساعدة رئيس الدولة على القيام بوظيفته التنفيذية”. فأنّى لمساعدي سعيّد من وزراء ورؤساء حكومات أن يكون لهم موقف أو رأي في سياساته واختياراته؟ لقد أظهرت تجربة الحكم منذ 2021 أن كلّ من يرفع صوته فوق صوت الرئيس ويدلي بتصريحات لا تروق للرجل الأول في الدولة أو يجتهد في وضع برامج وسياسات تختلف عما يرسمه يكون مصيرُه العزل والإقالة أو المحاسبة والتتبع القضائي.
لا شيء من سلسلة المسائل السياسية وغير السياسية الطويلة والمعقدة للزعفراني باع فيها أو دراية ومعرفة
والزعفراني هي الشخصية السادسة التي تتولى رئاسة الحكومة التونسية منذ اعتلاء قيس سعيّد كرسي الرئاسة سنة 2019، وهي الرابعة في المنصب بعد استفراده بالسلطة يوم 25 يوليو/ تموز 2021. وهو بذلك، ورغم قصر فترة حكمه، يحطّم الرقم القياسي في تسمية الحكومات ورؤسائها، مقارنة بالحبيب بورقيبة (خمسة وزراء أول في 30 سنة)، وزين العابدين بن علي (ثلاثة وزراء أول في 24 سنة)، والباجي قائد السبسي (رئيسان للحكومة في خمس سنوات).
لم يعدّد سعيّد مناقب رئيسة حكومته التي اصطفاها للمنصب، وتغافل عن مدّ الرأي العام بالخصال التي تميزها عن سواها من الطبقتين السياسية والإدارية، ما يعطيها الأحقية والأهلية لأن تكون دون غيرها على رأس الحكومة التونسية. وقد بات هذا السلوك الرئاسي في تسمية رؤساء الحكومات والوزراء والولاة وإقالتهم من مهامهم من دون تقديم التفسيرات والدافع والمبرّرات، مألوفا لدى مختلف الشرائح الشعبية التونسية. ونظراً إلى فقدان هذه الشرائح الأدوات السياسية والدستورية لمساءلة الرئيس عن خياراته وتوجهاته ومعارضتها، فإن أغلبها يكتفي بالتعبير الساخر عن رفضه تلك التوجّهات وامتعاضه عبر منصات التواصل الاجتماعي مما بات يسمّى عبث التسميات وفوضى الحكومات.
في المقابل، لم يعُد الرئيس سعيّد يتردّد في تحقير وزرائه وأعوانه المُقالين، وتحويلهم أكباش فداء، وتعدّ إقالة وزيرة المالية السابقة سهام البوغديري، التي اجتباها سعيّد لتولي الخطّة الوزارية قرابة أربع سنوات (أكتوبر/ تشرين الأول 2011 – فبراير/ شباط 2025)، مثالاً لعدم الاعتراف وإهانة رجال الدولة التونسية ونسائها، فقد اقتحم سعيد على الوزيرة مكتبها مسائلا إياها ومتهما لها، وهو مصحوبٌ بكاميرا التصوير الرئاسية، بالتقصير وملمحاً إلى وجود تلاعب في ملف الأموال المنهوبة الذي يعود إلى 2011. ولم يكن ذلك الاقتحام وما صاحبه من مشهد سوريالي، وقوبل من عامة التونسيين ونخبهم باستهجانٍ وتندّر، سوى أداة تبرير أعدّت على عجل لاتخاذ قرار إقالة، وكان على الرئيس أن يتعالى ويحفظ لوزيرته، التي ائتمنها على المالية التونسية سنين، كرامتها.
لم يعترف الرئيس، ولو مرّة، طوال فترة حكمه ست سنوات، بفشله وسوء اختياراته ومسؤوليته عن هدر المال العام
تكرّر المشهد في إقالة رئيس الحكومة كمال المدوري، الذي تولى مهمته ثمانية أشهر وبضعة أيام (السابع من أغسطس/ آب 2024- 20 مارس/ آذار 2025)، في ما يشبه المحاكمة العلنية، على هامش انعقاد مجلس الأمن القومي يوم 20 مارس بمناسبة الذكرى 69 لاستقلال تونس، باتهامه من الرئيس سعيّد بتحويل قصر الحكومة بالقصبة إلى مرتع للوبيات والحنين إلى دستور 2014 قائلا “واليوم كما بالأمس غير البعيد لمّا لم يجدوا إلى رئاسة الدولة طريقا أو منفذا حوّلت اللوبيات وحوّل أعوانها وجهتم إلى القصبة حتى تكون لهم مربعاً ومرتعاً”، مضيفا “البعض أصيب بداءٍ عُضال لا بد من وضع حدّ له وهو دستور 2014 هذا الذي وضعت بعض فصوله ممن كانوا في الخارج والأجانب الذين كانوا يرتعون في البرلمان”، علما أن ذلك الدستور يمنح الصلاحيات الأوسع في ممارسة الحكم لرئيس الحكومة، وليس لرئيس الجمهورية.
ولم يكن الفيديو والصور المنشورة على صفحة الرئاسة التونسية في منصة فيسبوك، عن التسليم والتسلم، بقصر الحكومة بالقصبة، بين رئيس الحكومة المقال كمال المدوري ونظيرته الجديدة سارة الزعفراني الزنزري، بحضور الرئيس سعيّد، سوى مشاهد مظلّلة للرأي العام التونسي والأجنبي، إذ لا تعكس تلك المشاهد والصور الوجع العميق لدى قوى تونس الحية وعموم شعبها ونخبها الوطنية. وجع مأتاه ما آل إليه المشهد السياسي في تونس من أزمةٍ مزمنةٍ وتصحّر وعبثية، تعكسها، في جانب منها، التسميات العشوائية وغير المدروسة وما يتلوها من قرارات العزل والإقالة في هرم الدولة في فترة الحكم السعيديّة. هذا من دون أن يعترف الرئيس، ولو مرّة واحدة، طوال فترة حكمه ست سنوات، بفشله وسوء اختياراته ومسؤوليته عن هدر المال العام عبر توزيع المناصب القيادية في الدولة على من لا دراية لهم بالشأن العام وإكراهاته وسبل تجاوز تلك الإكراهات، مع منحهم الأجور العالية وامتيازات الدولة المالية والعينية، الأمر الذي أدّى إلى استذكار التونسيين الأيام الأخيرة للرئيس الأسبق الحبيب بورقيبة وفترة شيخوخته وما صاحبها من تخبّط وعشوائية ومن تسمية الوزراء صباحاً وإقالتهم في المساء.