عندما يتزايد الصراع على أفريقيا
كتب محمد طيفوري في “العربي الجديد”:
تتزايد، بشكل ملحوظ، مؤشرات صراع الدول الكبرى على القارة الأفريقية، حتى بدا الأمر وكأن حربا باردة جديدة بين الكبار تلوح في الأفق، فما تشهده القارّة من حركية دبلوماسية نشيطة، منذ عدة أسابيع، يوحي بأن هذه القوى في صراع مع الزمن، من أجل الظفر بوِد الدول الأفريقية. طبعا، ليس حبّا في سواد أعين الأفارقة، بقدر ما هو باكورة تبعات الحرب الروسية ضد أوكرانيا، التي خلخلت موازين القوى على الصعيد الدولي، تمهيدا لميلاد عالم جديد.
توالت زيارات مسؤولي القوى الكبرى، حد التزامن أحيانا؛ مثلما حدث في زيارة رئيس فرنسا، إيمانويل ماكرون، وممثل الدبلوماسية الروسية، وزير الخارجية سيرغي لافروف، مع اختلاف وجهات كل جولة على حدة، وكأنهم بصدد عملية توزيع جديدة للنفوذ داخل القارة. فقد اختار لافروف الشرق الأفريقي (مصر وأوغندا وإثيوبيا والكونغو)، بينما اتجه ماكرون نحو غرب القارّة (الكاميرون والبنين وغينيا بيساو)، فيما فضّل وزير الخارجية الأميركي، أنتوني بلينكن، الجنوب (جنوب أفريقيا والكونغو الديمقراطية ورواندا)، وسبقهم جميعا وزير الخارجية الصيني، وانغ يي، بجولة مطلع العام الجاري إلى أفريقيا (إريتريا وكينيا وجزر القمر)، وذلك سعيا وراء التمكين من الموارد والأفضلية في الأسواق والامتياز في الاستثمارات.. باختصار، بحثا عن التغلغل.
يفرض هذا الرهان على ممثلي الدول حسن تسويق الخطط والبرامج والاستراتيجيات.. أملا في إقناع الزعماء الأفارقة بمزايا الشراكة، وعوائد الاصطفاف إلى جانبهم. لا تخلو تلك المساعي من الهجوم على الآخرين، فمثلا تحدّث الوزير الروسي، لافروف، عن “مواجهة الغرب الاستعماري والجرائم التي ارتكبها”، واستعان بالتاريخ للتذكير بمواقف الاتحاد السوفييتي الداعمة لحركات التحرّر في أفريقيا، متعهدا بعزم موسكو دعم استقلالية بلدان القارّة السمراء. نظير ذلك، استعان الوزير الأميركي، بلينكن، بخطاب دبلوماسي ناعم، لحظة تقديم الأجندة الأميركية الجديدة؛ فبلاده “لا ترغب بإملاء خياراتٍ على أفريقيا، ولا يجب أن يقوم أحد آخر بهذا”. ناهيك عن التبشير بجدولة الإدارة الأميركية قمة أفريقية – أميركية، على مستوى قادة الدول، شهر ديسمبر/ كانون الأول المقبل. وذلك كله طمعا في العودة سريعا إلى القارّة، بعد سنوات من الإهمال، جرّاء فقدان واشنطن استراتيجية واضحة بشأن القارّة.
يتّجه الأفارقة نحو تكرار سيناريو أميركا اللاتينية، بين المعسكرين الشرقي والغربي زمن الحرب الباردة
أما ماكرون الذي يحيي تقليد الجولة الأفريقية، عقب كل انتخاب رئاسي، فحاله أقرب إلى رقصة الديك الذبيح، بعد تقهقر نفوذ فرنسا في أكثر من عشرين دولة؛ في شمال (أربعة دول) القارّة وغربها ووسطها (13 دولة)، فضلا عن جيوب كثيرة في المحيط الهندي (ثماني جزر). ناهيك عن خسارة باريس آخر ريادة للشراكة التجارية في المنطقة المغاربية، بإعلان تونس، بداية العام الجاري (2022)، إيطاليا شريكا تجاريا أول لها. وسبق ذلك قرار باماكو قطع العلاقات الدبلوماسية مع باريس. وضعية مقلقة، حملت الرجل على استدعاء تاريخ فرنسا غير المشرّف بالقارّة؛ (بشقيه، القديم: الاستعمار، والحديث: محاربة الإرهاب)، لإقناع الأفارقة بالاستراتيجية الفرنسية تجاه أفريقيا (يقترب الكشف عن تفاصيلها الشهر المقبل)، والقائمة أساسا على ثلاث ركائز: مكافحة الإرهاب، وتجديد العلاقات الفرنسية الأفريقية، والأمن الغذائي.
يتراوح الصراع على أفريقيا بين كفاح الحلفاء التقليديين، من أجل استعادة النفوذ؛ وهذا حال فرنسا والولايات المتحدة تحديدا، وسباق الوافدين الجدد، بحثا عن النفوذ داخل القارّة لأول مرة؛ وتقوده كل من الصين وروسيا بالدرجة الأولى، ملحوقةً بدول أخرى، بدرجاتٍ متفاوتة، كالهند وتركيا واليابان وألمانيا. تنافسية تتيح أمام الدول الأفريقية فرصة اختيار التموقع، بما يتوافق مع مصالح البلد، بعيدا عن خطاب الأوامر ولغة التعليمات. وعلى فرض أن هذا نهج دول معينة؛ كما عبّر عن ذلك بلينكن، بتأكيده على تمسك الولايات المتحدة بالدبلوماسية الناعمة، من خلال السعي إلى “شراكة حقيقية” مع أفريقيا، من دون أن يكون ذلك “على حساب نفوذ القوى العالمية الأخرى”، يبقى احتمال الانزلاق نحو السلاح والعنف واردا، بعمل كل طرفٍ على تغذية الصراع في هذه الدولة أو ذاك الإقليم، سعيا وراء النفوذ وصونا للمصالح.
تزيد معضلة الانتشار المكثف لشركة الأمن الروسية الخاصة، المعروفة باسم “فاغنر”، في كل من ليبيا وأفريقيا الوسطى وموزمبيق.. من رجحان هذه الفرضية. وتعزّزها مساعي بكين نحو دعم الغزو الاقتصادي للقارّة الأفريقية، بتسجيل الحضور العسكري في أول قاعدة عسكرية صينية في جيبوتي، عام 2017. والبحث حاليا عن تدشين قاعدة عسكرية مماثلة في غينيا الاستوائية. ناهيك عن الوجود العسكري الفرنسي، منذ عقود، في كلّ من جيبوتي والسنغال والغابون.
صحيح أن التهافت على أفريقيا ليس وليد اليوم، لكن مجريات الحرب الروسية على أوكرانيا سرّعت من إيقاعه
يبدو أن هذه المعطيات لا تحضر في حسابات الأفارقة، عند تعاطيهم مع الفرض أو “العروض” بلغة الاقتصاد، فالولايات المتحدة، في الحلف التقليدي، تدير العالم بمنهج عقابي؛ فلا تزال العقوبات الأميركية سارية على تسع دول أفريقية. فيما فرنسا شريكتها، قوة استعمارية ناهبة للثروات، وعقبة أمام تحرّر الشعوب ونهضة الأمم الأفريقية. مقابل ذلك، تبدو الصين، الدولة العابرة للأيديولوجية، قائدة الحلف المضاد، بديلا “من أجل الجنوب العالمي”. وتظهر روسيا في موقع الدولة التي لا تخذل حلفاءها.
يتّجه الأفارقة نحو تكرار سيناريو أميركا اللاتينية، بين المعسكرين الشرقي والغربي زمن الحرب الباردة، ما لم يعقلوا أن هرولة الأوروبيين، هي بالأساس، نحو مواردها من الطاقة، طمعا في أن تصبح بديلا عن روسيا. وتبكير الصين بحضورها الاقتصادي، نتيجة إدراكها أن الأسواق واعدة في قارّة المستقبل. وإمعان روسيا في تسجيل حضورها الخشن بالقارة، خطوة في معركة تغيير قواعد اللعب على الصعيد الدولي، التي تتطلب داعمين ومناصرين يشدّون أزرها. وعودة الولايات المتحدة بوعي متأخر لأهمية الصوت الأفريقي، بعد تحفظ دول أفريقية على التنديد بالحرب الروسية على أوكرانيا.
صحيح أن التهافت على أفريقيا ليس وليد اليوم، لكن مجريات الحرب الروسية على أوكرانيا سرّعت من إيقاعه، وكشفت تفاصيله بجلاء على مسرح الأحداث، بعدما اكتشفت الدول الكبرى أنها، بشكل أو بآخر، معنية بكلام الرئيس الراحل ميتران، عن علاقة أفريقيا بفرنسا، “من دون أفريقيا، فرنسا لن تملك أي تاريخ في القرن الواحد والعشرين”.