عندما تكون القوة منطق المجتمع الدولي
كتب أحمد غلوم بن علي في صحيفة السياسة.
لا تتميز المجازر والإبادة اليومية في غزة اليوم بكثافتها وأعداد الشهداء فيها، وفي فترات قريبة ومتزامنة فقط، إنما أيضا لأنها تحدث على مرأى ومسمع جميع من يحمل هاتفا ذكيا.
فالإبادة في روندا 1994، ومجزرة سربرنيتسا في البوسنة والهرسك عام 1995، مثلا، لم تنقل على الهواء مباشرة، ولم يدرك بوجودها الناس إلا عبر محطات التلفزة والإذاعة التقليدية، آنذاك، والتي أثبتت اليوم عدم نزاهتها بوجود المنافس، وهي وسائل التواصل الاجتماعي (رغم الحظر الممارس عليها من شركاتها).
فهذه الإبادة الواضحة للعيان تثبت بما لا يدع مجالا للشك أن منطق القوة والمنعة هو ما يفهمه ويسير عليه المجتمع الدولي.
وعندما نقول المجتمع الدولي (وليس النظام الدولي) فإننا نعني جميع الدول والمنظمات والهيئات الدولية المرتبطة بمعاهدات وإتفاقيات أممية مرجعها في الأغلب الأعم الأمم المتحدة (في التاريخ المعاصر).
وهو مجتمع بدأ بالتبلور في أوروبا بعد معاهدة ويستالفيا 1648، ولعل منطق القوة ما هو إلا إرث لتلك المعاهدة، التي أنهت ثلاثين عاما من الحروب والنزاعات الدينية بين الكاثوليك والبروتستانت.
فمنطق القوة لا ينبع بالضرورة من القوة العسكرية للدول، ومدى نفوذها الجيوسياسي، وتوسعها، وإنما مدى النفوذ المجتمعي والإعلامي أيضا، كالوسائل الإعلامية، المجتمع المدني، اي هيئات الإغاثة، المدارس والمناهج التعليمية، التكنولوجيا وحتى الثقافة.
بعبارة أخرى، وعلى سبيل المثال، في يناير 2015 وعلى إثر الاعتداءات في فرنسا التي سقط فيها 17 قتيلا وعشرون جريحا، تداعى أكثر من 50 رئيس دولة، وعشرات من ممثلي دول أخرى حول العالم، في تظاهرة عارمة غطت العاصمة باريس (في حين إبادة غزة اليوم لم تستدع حتى رئيسين في تظاهرة، حتى وإن كانت ضد “حماس”).
حينها ضجت وسائل الإعلام والـ”ميديا” بشكل عالمي، وألغيت جميع البرامج والأحداث رياضية كانت أو إعلامية، في حين تظهر اليوم منظمات وهيئات (مستقلة) تشكك في المصطلحات كالإبادة أو المجزرة، في ما يحدث في غزة فلسطين.
إنه منطق القوة في هذا المجتمع الدولي، فالمواطن الفرنسي أو الأميركي، مثلا، لا يزال يصنف أنه الرجل الأبيض السامي عرقا وقوة، والبقية مستعمرات ملونة تابعة، وهذه حقيقة يتم تجاهلها (أو تلوينها) في المراجع التعليمية للقانون الدولي، والعلاقات الدولية على سبيل المثال، فحربا أوروبا تسميان حربا عالمية، أولى وثانية، (وكأننا غير موجودين) والإبادة في غزة تسمى دفاعا عن النفس للكيان الاسرائيلي، والأمثلة كثيرة.
هذا المنطق (القوة) في العلاقات الدولية بين الدول والمنظمات والهيئات الحكومية والمستقلة، نابع من الوضع الدولي القائم على قوة القطبية الأحادية، لما يسمى النظام الدولي الجديد، (الذي دشنه جورج بوش الأب 1990).
ففي عالم غير متعدد أو مساوي القطبية لا يمكن افتراض منطق العدالة والمساواة بين الدول والشعوب، ولا يمكن التغريد خارج سربها كتجربة منظمة دول عدم الإنحياز، إبان الحرب الباردة والمستمرة الى يومنا هذا، والذي لا يعدو كونه اليوم إلا محفلا للتعارف، ولا يرقى حتى لتكتل اقتصادي أو ثقافي، وأي سعي للتغريد خارج السرب القطبي توصف تلك الدول، أو الجماعات، بالإرهابية وتطبل وسائل الإعلام على النغمة الإرهابية صباحا ومساء.
أحد منابع ظاهرة القوة في المجتمع الدولي هو الأحادية في النظام الدولي القائم، ثانيه التكتلات العسكرية، وأبرزها حلف شمال الأطلسي الذي تأسس 1949، لمقارعة “حلف وارسو” إبان الحرب الباردة، والذي خرج من تلك العباءة ليصل أعضاؤها الى 31 دولة، ولتكون فزاعة لدول تفكر في مقارعة القوة القائمة.
هذه التكتلات العسكرية تعزز منطق القوة في المجتمع الدولي، وأي عضو فيها لا يشفع له المنطق الحديث عن العدالة، أو عن ازدواجية المنطق، كتركيا عندما تتحدث عن فلسطين وإبادة غزة.
الرأسمالية كإيديولوجية اقتصادية هي أحد أذرع منطق القوة في المجتمع الدولي أيضا، كونها قائمة على أعمدة صندوق النقد والبنك الدوليين، ومنظمة التجارة العالمية، بشركاتها العابرة للقارات، أو ما اصطلح عليه العولمة، والتي تزعزع استقرار الدول والمجتمعات، في حال اعتراضها أو ممانعتها مصالح الدول الغربية.
كسر هذا المنطق لا يكون بأدوات أصحاب هذا المنطق، ، مثلا، بالتحول الديمقراطي أو تطلعات ما يسمى المجتمع المدني، أو حقوق الإنسان (بالمفهوم الغربي)، إنما يكون بالعلم والسلاح.
هذا ما أثبته تاريخ بشريتنا، وهو ما لا يكون إلا عبر حروب كبرى، لأننا لا نزال في غابة.