علاقة مصر بالقرن الأفريقي أبعد من إثيوبيا
كتب محمد أبو الفضل في صحيفة العرب.
الطريقة الغاضبة التي تتعامل بها الحكومة الإثيوبية مع أي تحرك مصري في الصومال أو غيره أدت إلى تأكيد أنها قلقة ومنزعجة وربما تفتقر إلى الثبات الإستراتيجي المطلوب في مثل هذه الحالات.
يربط الكثيرون بين كل تحرك مصري نحو منطقة القرن الأفريقي وبين الأزمة المستعصية بين القاهرة وأديس أبابا بشأن سد النهضة، ويتم تصنيفه في إطار المكايدة أو المناكفة، وهو توصيف به قدر من الصواب في ظل الخلاف المحتدم بينهما، لكنه ليس كل الصواب، لأن لمصر مصالح كبيرة في هذه المنطقة الحيوية أبعد من إثيوبيا.
تعامل البعض بتوجس مع زيارة وزيري الخارجية والاستخبارات المصريين بدر عبدالعاطي وعباس كامل إلى أسمرة ولقاء الرئيس الإريتري أسياس أفورقي، السبت، وأن المستهدف منها توصيل رسالة جديدة إلى إثيوبيا، في حين أن الزيارات والاتصالات المتبادلة بين القيادتين وكبار المسؤولين في مصر وإريتريا لم تتوقف خلال الفترة الماضية، أي قبل تصاعد حدة الخلافات بين القاهرة وأديس أبابا عقب توقيع الأولى اتفاقا للتعاون العسكري مع الصومال، وتوقيع الثانية اتفاقا مع إقليم أرض الصومال تحصل بموجبه إثيوبيا على منفذ بحري في جنوب البحر الأحمر وقاعدة عسكرية وتسهيلات لوجستية.
تتجاوز العلاقة بين مصر وإريتريا حصرها في إثيوبيا، وربما تكون الأخيرة جزءا منها بحكم الخلافات بينها وبين هذين البلدين لأسباب مختلفة، فإريتريا تملك حدودا بحرية ممتدة على البحر الأحمر، ودولة لصيقة بالسودان الذي تجتاحه أزمة حادة، وهي أيضا إحدى دول حوض نهر النيل، وعلى مشارف القرن الأفريقي الذي يموج بصراعات ونزاعات متباينة، وتهديدات من جماعات متشددة تزايد نشاطها مؤخرا.
لم تكن زيارة وزيري الخارجية والاستخبارات وفقا للبيان المصري الرسمي بعيدة عن كل هذه القضايا المهمة، وبالتالي حصرها فقط في إطار مضايقة إثيوبيا فيه مبالغة.
من الصعب اختزال توجهات مصر نحو إريتريا والصومال وجيبوتي والسودان وتنزانيا وكينيا وأوغندا وغيرها من الدول في خانة استهداف إثيوبيا أو مضايقتها، ومن الصعب أيضا ربط كل اتفاقية أمنية أو عسكرية بين القاهرة وإحدى الدول الأفريقية بأنها ترمي إلى تقويض أركان إثيوبيا، والتي لديها علاقات متنامية بقوى إقليمية ودولية، وعقدت اتفاقيات تعاون عسكري ودفاع مشترك مع دول عربية وغير عربية، ولم يتحدث أحد في القاهرة على أنها تستهدف تقويض مصر.
لا أحد ينكر الخلاف بسبب سد النهضة بين البلدين، والذي سلكت مصر لحله طريقا تفاوضيا مضنيا من دون أن تصل إلى نتيجة ملموسة حتى الآن، ما جعلها تلجأ إلى مجلس الأمن الدولي ومنبر الاتحاد الأفريقي، وكل الطرق التي يمكن أن تؤدي إلى تسوية الأزمة بأدوات سياسية وقانونية وفنية، وجعلها أيضا تقف لإثيوبيا بالمرصاد، وترفض قبول أمر واقع جديد في قضايا أخرى.
كذلك يصعب حصر الممانعة على اتفاق أديس أبابا مع أرض الصومال في مصر، لأن هذا الإقليم لم يحصل على استقلال رسمي يخوّل له التوقيع على اتفاقيات دولية، وهناك قوى كبرى مثل الصين تربط بين محاولات الاعتراف بتايوان وأرض الصومال، وتمانع في الوصول إلى هذه النقطة، بمعنى أن أديس أبابا قد تصطدم ببكين، وفي هذه الحالة سيكون الوضع أشد وطأة، لأن الصين أكبر مستثمر في إثيوبيا.
كما أن القاعدة العسكرية الإثيوبية المحتملة في أرض الصومال لن تمثل ضررا مباشرا على الملاحة في البحر الأحمر ولقناة السويس المصرية، إذا أرادت إثيوبيا سلوك هذا الطريق، فالميناء المتفق عليه بينهما لن تكون له تأثيرات مباشرة على هذا الممر العالمي، والذي لا يهم مصر فقط، علاوة على أن جيبوتي وإريتريا والصومال تعج جميعها بقواعد عسكرية من دول مختلفة ولم تعلن القاهرة شكواها منها، أي أن قاعدة إثيوبيا الجديدة في أرض الصومال لن تمثل إنهاكا بالمعنى الحقيقي للأمن في المنطقة.
يحمل الاعتراض المصري على هذه القاعدة رسالة مهمة مفادها أن مصر إذا رغبت في مضايقة إثيوبيا فإن لديها الكثير من الأدوات التي تستطيع أن تستخدمها لهذا الغرض، وعلى أديس أبابا أن تقبل بالحلول التفاوضية في القضايا الخلافية، لأن القاهرة بدأت في السنوات الماضية استدارة كبيرة نحو منطقة القرن الأفريقي لما تمثله من أهمية لمصالحها، وقد حصدت خسائر جمة بسبب ابتعادها نسبيا عن القارة، وهذه المنطقة بشكل خاص، والتي تعد جزءا مركزيا ومفصليا في الأمن القومي المصري ولا يجب تجاهل ذلك أو التهاون في التعامل معه.
يشير اتجاه القاهرة نحو تطوير العلاقات مع الصومال إلى مخزون كبير من الهواجس لدى إثيوبيا، لأنها نسيت النشاط المصري السابق في هذه المنطقة بعد فترة طويلة من الانقطاع، لأسباب تتعلق بحسابات وانشغالات ثبت خطأها، وهو ما يتم العمل على تصحيحه، وتزامن مع دخول أزمة سد النهضة نفقا مسدودا، ومحاولة إثيوبيا التعاطي مع التواجد المصري على أنه موجه ضدها وتصديره للآخرين على أنه ينطوي على أغراض خفية، بما جعل كل خطوة تقوم بها مصر نحو الدول القريبة من إثيوبيا يتم النظر إليها باعتبارها موجهة إليها أساسا.
هناك الكثير من النقاط المشتركة التي يمكن البناء عليها بين البلدين، قد تكون كفيلة بحل غالبية الخلافات بينهما، إذا خلصت النوايا، لأن تتبّع إثيوبيا لكل التحركات المصرية وفهمها على أنها مستهدفة منها سوف يمثل إرهاقا لها، أما إذا كانت تستبق الأمور وتسعى إلى وضع عراقيل وتحذيرات أمام القاهرة كي تنهي أيّ مقاربة جديدة لها في المنطقة، فإنها ستكون مخطئة، لأن التحركات الراهنة مرتبطة بتوجهات إستراتيجية، كان يجب أن تبدأ مبكرا.
لكن التطورات المتلاحقة في جنوب البحر الأحمر، والتوجس من زيادة انتشار تنظيم القاعدة الإرهابي في القرن الأفريقي وما يمثله من خطر إقليمي، واتساع حجم الصراعات في المنطقة، كلها عوامل تفرض حضورا مصريا بالطريقة المناسبة.
ليس بالضرورة أن يكون هذا الحضور عسكريا، فلم تتغير العقيدة المصرية الرافضة لإرسال قوات خارج حدود البلاد حتى الآن، وربما زادت أهميتها مع كثافة التحديات والصراعات، والتصريحات الحادة التي خرجت من بعض وسائل الإعلام في إثيوبيا، ولوّحت إلى إمكانية استهداف أيّ قوات على الأرض في الصومال.
والمؤكد أن مصر تستوعب الدرس الذي خلّفه تعرض القوات الأميركية والباكستانية لمهانة عسكرية بعد نشوب الحرب الأهلية في الصومال في النصف الأول من تسعينات القرن الماضي، ولن تمنح مصر لإثيوبيا أو غيرها فرصة لتكراره معها، لأن مقاربتها حيال القرن الأفريقي تأخذ في حسبانها التعقيدات الاجتماعية والأمنية.
أدت الطريقة الغاضبة التي تتعامل بها الحكومة الإثيوبية مع أيّ تحرك مصري في الصومال أو غيره إلى تأكيد أنها قلقة ومنزعجة، وربما تفتقر للثبات الإستراتيجي المطلوب في مثل هذه الحالات التي سوف يربح فيها من يعض أكثر على أصابع الآخر، ويتمكن من تسجيل أكبر عدد من النقاط في مرماه.