كتب حسام ميرو في صحيفة “الخليج” المقال التالي: أي أمل بحلول في لبنان، سياسية واقتصادية ومعيشية، هو أمل غير واقعي، ويبقى مجرد أمنية، تنتمي إلى خانة المستحيل، فالتحليل لصيرورة لبنان التاريخية، لا يفسح المجال لهذا النوع من الأمنيات التي تحتاج إلى معجزات، فالمعطيات والوقائع تشير إلى أن لبنان، ومنذ زمن طويل، يعيد إنتاج حالة العطالة الداخلية.
لبنان، لا يمكن اختزاله في الطبقة السياسية فقط، فليس أسهل من تصويب سهام الاتهام نحو هذه الطبقة، وهي تستحق فعلاً كلّ النقد الذي يوجّه لها، لكن نقد الطبقة السياسية الأبدية في هذا البلد، من شأنه أن يعفي النقد من الدور الأكثر أهمية، أي ذهابه نحو نقد المنظومة اللبنانية برمّتها، وليس قمة هرم هذه المنظومة فقط.
قد يكون للطبقة السياسية اللبنانية خصوصيتها، نظراً لتجذرها في الواقع التاريخي لتشكّل ونشوء الدولة اللبنانية، لكن لا يمكن تفسير كل شيء بناءً على هذه الخصوصية، ما يجعل من الضروري بمكان، النظر إلى لبنان بوصفه منظومة متكاملة، ليس عبر فهم وحداته السياسية والتنفيذية، أي الأحزاب، والبرلمان، والمؤسسات، بل من خلال العلاقات الاجتماعية والاقتصادية لهذا البلد، وما يتفرّع عنها من حمولات ثقافية، ذات صلة بالهوية والانتماء، وبالتالي فهم الأدوار الاجتماعية للفئات المختلفة.
ليست هذه هي المرة الأولى التي يفشل فيها اللبنانيون في انتخاب رئيس للجمهورية، فهذا الأمر أصبح جزءاً لا يتجزأ من الحالة اللبنانية، في العقدين الأخيرين، لكن في هذه المرة، وصل لبنان إلى أوضاع كارثية غير مسبوقة، خصوصاً مع تهاوي سعر صرف العملة المحلية أمام الدولار، بشكل غير مسبوق، وانضمام قسم كبير من أبناء الطبقى الوسطى إلى الفئات المفقرة، فبحسب تقارير صادرة عن الأمم المتحدة، فإن نحو 80% من اللبنانيين هم في عداد الفقراء.
في عام 2019، عمّت لبنان تظاهرات احتجاجية ضد الطبقة السياسية برمّتها، وكانت الأوضاع الاقتصادية آنذاك أفضل نسبياً من الوضع الراهن، لكن الطبقة السياسية تمكّنت من احتواء الاحتجاجات الشعبية، لكن هذا الاحتواء لم يكن ممكناً من دون الدور السلبي الذي لعبه مناصرو الأحزاب الطائفية، وهم في معظمهم من الفئات الفقيرة المهمّشة، ما يفسر الدور الوظيفي الاجتماعي والمعيشي الذي تقوم به الأحزاب، من خلال تأمين بعض الوظائف والمساعدات لمناصريها وجمهورها.
أحد ركائز الانقسام اللبناني الطائفي، يكمن في السياق الذي بُنيت فيه الهويات الفرعية الضيقة، التي يشكّل لها الآخر مصدر خوف تاريخي، تمّت صياغته واستثماره من أطراف عدة، داخلية وخارجية، بحيث أصبح الانتماء للدين والطائفة والمرجعيات المذهبية والسياسيين (ممثلي الطوائف)، أكبر من الانتماء إلى لبنان، الكيان والدولة والمجتمع، مع استعادات جاهزة حين الطلب لمجريات الحرب الأهلية اللبنانية بين عامي 1975 و1989.
فمع انتهاء الحرب الأهلية، تحوّلت الأحزاب الوطنية العابرة للطوائف إلى خلفية المشهد السياسي، ومن بقي منها حاضراً، ليس عبر تأثيره في الواقع، بل من خلال حضور إعلامي شكلي، فإنه يعمل في ظل عباءة أحد الأحزاب والقوى الطائفية، وبذلك، فإن لبنان الذي كان في مقدمة لحظة التنوير العربي الديمقراطي الليبرالي، ثقافة وتنظيراً، لم يبقَ منه سوى ذكريات غابرة، ليس لها أي حامل موضوعي في الحاضر.
وعلى الرغم من مستويات العطالة المتعدّدة في المنظومة اللبنانية، إلا أن لبنان كان قادراً، خصوصاً في تسعينات القرن الماضي، والسنوات الخمس الأولى من الألفية الثالثة، أي قبل اغتيال رئيس الوزراء رفيق الحريري، على إظهار بعض مؤشرات التعافي الاقتصادي، التي شكّلت ما يشبه الغطاء النسبي لمشكلات وأزمات المنظومة اللبنانية، بفضل الريع الذي تمّ ضخه في الاقتصاد اللبناني، عبر بوابات إعادة الإعمار، ومساهمة الدول الخليجية في الاقتصاد، في قطاعات العمران والمال والخدمات.
وفي العقد الأخير، فقد الاقتصاد اللبناني الكثير من مصادر الريع، فقد أدّت الأزمات السياسية المتتالية إلى فقدان الاستثمارات الخارجية الثقة بالواقع اللبناني، الذي يفتقد مستويات استقرار مطلوبة لجذب أموال المستثمرين، في الوقت الذي تمّ فيه تبديد الكثير من أموال الدعم، من خلال آليات المحاصصة الطائفية، وصولاً إلى أزمة البنوك المحلية، وفقدانها القدرة على الوفاء بالتزاماتها الخارجية، أو تجاه المودعين المحليين.
وإذا كان بإمكان لبنان التكيّف لمدة أكثر من ثلاثة عقود مع طبقة سياسية طائفية، بفضل المال الريعي الخارجي، إلا أن هذا التكيّف أدى إلى تكريس التأخر في مجمل المنظومة اللبنانية، والتي أصبحت اليوم عاجزة عن التعامل مع تبعاته، ما يقلّل من فرص نجاح التسويات السياسية، ويفتح الباب مجدداَ أمام الاحتمال الأسوأ الذي اختبره اللبنانيون في حربهم الأهلية.
إن الآراء الموجودة في هذه المقالة تعبر عن رأي كاتبها.