رأي

عصر الجمود في عهد شي جينبينغ

كتب إيان جونسون في إندبندنت عربية

في الأشهر الأولى من عام 2023، كان بعض المفكرين الصينيين يتوقعون أن يضطر الرئيس الصيني شي جينبينغ إلى التوقف موقتاً أو حتى التخلي عن أجزاء كبيرة من مسيرته نحو المركزية التي دامت عقداً من الزمن. وعلى مدار العام السابق، شاهدوا الحكومة وهي تترنح من أزمة إلى أخرى. أولاً، تمسك الحزب الشيوعي الصيني بعناد باستراتيجيته “صفر كوفيد” من خلال عمليات إغلاق واسعة النطاق لبعض أكبر المدن الصينية، على رغم أن معظم الدول الأخرى كانت قد أنهت قبل فترة طويلة الضوابط الصارمة غير الفعالة مفضّلةً اللقاحات المتطورة. وفي نهاية المطاف، أدى تعنت الحكومة إلى رد فعل عنيف: في نوفمبر (تشرين الثاني) 2022، اندلعت احتجاجات مناهضة للحكومة في تشنغدو، وغوانزو، وشانغهاي، وبكين، وهذا يعد تطوراً مذهلاً في الصين تحت حكم شي. ثم، في أوائل ديسمبر (كانون الأول)، تخلت الحكومة فجأة عن سياسة صفر كوفيد من دون تلقيح مزيد من كبار السن أو تخزين الأدوية. وفي غضون أسابيع قليلة، انتشر الفيروس بين السكان، وعلى رغم أن الحكومة لم تقدم بيانات موثوقة، فقد خلص عديد من الخبراء المستقلين إلى أنه تسبب في أكثر من مليون حالة وفاة. ومن ناحية أخرى، خسرت البلاد جزءاً كبيراً من النمو الديناميكي الذي أسهم على مدى عقود من الزمن في تعزيز قبضة الحزب على السلطة.

ونظراً للوطأة المتزايدة، افترض كثير من المفكرين الصينيين أن شي سوف يضطر إلى إرخاء قبضته الحديدية على الاقتصاد والمجتمع. وعلى الرغم من فوزه مؤخراً بولاية ثالثة غير مسبوقة بصفته أميناً عاماً للحزب ورئيساً، وعزمه على ما يبدو على البقاء في الحكم مدى الحياة، فإن انعدام الثقة العامة كان أعلى من أي وقت سابق خلال مدة السنوات العشر التي قضاها في السلطة. كان القائدان الصينيان المهيمنان في القرن العشرين، ماو تسي تونغ ودينغ شياو بينغ، قد عدّلا نهجيهما عندما واجها تحديات؛ ومن المؤكد أن شي وأقرب مستشاريه سيفعلون ذلك أيضاً. في بكين، في مايو (أيار)، قال لي محرر إحدى مجلات الأعمال الأكثر تأثيراً في الصين: “كنت أعتقد أنهم سيضطرون إلى تغيير المسار، ليس في سياسة كوفيد فحسب، بل في أمور كثيرة أخرى، على غرار السياسة المناهضة للمؤسسات الخاصة ومعاملة الشرائح الاجتماعية بقسوة”.

ولكن لم يحدث أي من ذلك. وعلى رغم إلغاء إجراءات صفر كوفيد، إلا أن بكين تشبثت باستراتيجية تسريع التدخل الحكومي في الحياة الصينية. وقد تم اعتقال عشرات الشباب الذين احتجوا في الخريف الماضي وحكم عليهم بالسجن لفترات طويلة. وأصبحت حرية التعبير مقيدة أكثر من أي وقت مضى، وصارت السلطات تنظّم الأنشطة المجتمعية والفئات الاجتماعية وتراقبها على نحو صارم. وبالنسبة إلى الأجانب، أدى الاحتجاز التعسفي لرجال الأعمال ومداهمات الشركات الاستشارية الأجنبية، للمرة الأولى منذ عقود، إلى زيادة الإحساس بالخطر المترافق مع ممارسة الأعمال التجارية في البلاد.

وعلى مدار أكثر من عام، ظل الاقتصاديون يزعمون أن الصين مقبلة على فترة من تباطؤ النمو الاقتصادي. ومن أجل تفسير ذلك، أشاروا إلى التغييرات الديموغرافية، والديون الحكومية، وانخفاض المكاسب في الإنتاجية، فضلاً عن الافتقار إلى الإصلاحات الموجهة نحو السوق. في المقابل، تحدث البعض عن “الصين في الذروة”، زاعمين أن المسار الاقتصادي للبلاد قد وصل بالفعل أو سيصل قريباً إلى ذروته وقد لا يتفوق على الإطلاق على نحو كبير على مسار اقتصاد الولايات المتحدة. وهذا يعني في كثير من الأحيان أنه إذا عدّلت بكين إدارتها الاقتصادية، فستتمكن من تخفيف أسوأ النتائج وتجنب حصول تراجع أكثر خطورة.

وما يتجاهله هذا التحليل هو إلى أي مدى تمثل هذه المشكلات الاقتصادية جزءاً من عملية أوسع من التحجر السياسي والتصلب الأيديولوجي. وبالنسبة إلى أي شخص راقب البلاد عن كثب على مدى العقود القليلة الماضية، فمن الصعب ألا يلاحظ علامات الجمود الوطني الجديد، أو ما يسميه الشعب الصيني “نيهوان”. غالباً ما يُترجم هذا المصطلح إلى “التكوّر”، ويشير إلى الحياة الموجّهة نحو الداخل من دون إحراز أي تقدم حقيقي. في الواقع، لقد أنشأت الحكومة عالمها الخاص من تطبيقات الهاتف المحمول وبرمجياته، وهو إنجاز مثير للإعجاب ولكنه يهدف إلى عزل الشعب الصيني عن العالم الخارجي بدلاً من ربطه به. والجماعات الدينية التي كانت تتمتع باستقلال نسبي ذات يوم، حتى تلك المفضلة لدى الدولة، أصبح عليها أن تواجه الآن قيوداً مرهِقة. وصارت الجامعات ومراكز البحوث، التي يُعتبر بعض منها ذات طموحات عالمية، معزولة على نحو متزايد عن مثيلاتها الدولية. أما الجماعات الصغيرة من الكتّاب المستقلين والمفكرين والفنانين والنقاد، التي كانت مزدهرة في الماضي، فقد دُفعت إلى العمل بسرية تامة، تماماً كما حدث مع نظيراتها السوفياتية في القرن العشرين.

ومن غير المرجح الشعور بالتأثيرات الأعمق لهذا العزل بين عشية وضحاها، إذ لا يزال المجتمع الصيني مليئاً بالأشخاص المبدعين والمتعلمين والديناميكيين، ولا تزال الحكومة الصينية تحت إدارة بيروقراطية عالية الكفاءة. منذ وصول شي إلى السلطة في عام 2012، حققت بعض الإنجازات المبهرة، من بينها استكمال شبكة سكك حديدية عالية السرعة على مستوى البلاد، وتطوير مكانة متفوقة في مجال تكنولوجيات الطاقة المتجددة، وبناء واحد من أكثر الجيوش تقدماً في العالم. ومع ذلك، فإن “نيهوان” متغلغلة الآن في جميع جوانب الحياة في الصين في عهد شي جينبينغ، الأمر الذي يجعل البلاد أكثر عزلة وركوداً مقارنةً بأي فترة منذ أن أطلق دينغ عصر الإصلاح في أواخر السبعينيات من القرن الماضي.

في الأشهر التي تلت إنهاء بكين للقيود المفروضة بسبب فيروس كورونا، بدأ الصحافيون الأجانب وخبراء السياسة والعلماء في العودة إلى البلاد من أجل تقييم مستقبل الحكومة الصينية والاقتصاد والعلاقات الخارجية. ويميل كثيرون إلى التركيز على النخب في العاصمة ويربطون عزلة الصين والتباطؤ الاقتصادي بالتوترات بين واشنطن وبكين أو بتأثيرات الوباء. وعلى رغم ذلك، فإن التحدث إلى أشخاص من مناطق وطبقات مختلفة يقدم وجهة نظر مختلفة. في فترة الأسابيع المتعددة التي أمضيتها في الصين هذا الربيع، تحدثت مع بعض المفكرين الكبار الذين يرون الصورة كاملة، مثل محرر مجلة الأعمال. ولكنني قررت أن أقضي معظم وقتي مع شريحة أوسع بكثير من الشعب الصيني، تتضمّن الأطباء وأصحاب الأعمال وسائقي الحافلات والنجارين والراهبات والطلاب، الذين أعرفهم منذ سنوات. وتشير تجاربهم، جنباً إلى جنب مع الاتجاهات الأوسع في المجتمع المدني والحكومة، إلى أن قادة الصين، في سعيهم إلى تحقيق الاستقرار، قد بدأوا في التضحية بالتقدم التكنوقراطي لا بل حتى بالدعم الشعبي. ويبدو أن رهان بكين هو أنه من أجل الصمود في وجه ضغوط عالم غير مستقر، يجب عليها أن تنغلق على نفسها وتنجح بمفردها. إلا أنها في قيامها بذلك، فهي قد تكرر عوضاً عن ذلك أخطاء أسلافها من الكتلة الشرقية خلال العقود الوسطى من الحرب الباردة.

قد يبدو هوس إدارة شي جينبينغ بالسيطرة أمراً يؤذي المثقفين أو العمال في المناطق الحضرية في المقام الأول. وصحيح أن القيود المتزايدة الانتشار المفروضة على المجتمع المدني أدت إلى إغلاق المجلات، ودفع الفنانين إلى خارج البلاد، والتسبب في هجرة مئات الآلاف من أفراد الطبقة المتوسطة. لكنّ تشديد السياسة يخلف تأثيراً عميقاً على الشعب الصيني العادي أيضاً. لنأخذ مثلاً تجربة المشاركين في رحلة الحج الدينية الشعبية السنوية إلى جبل مقدس بالقرب من بكين. دمر المتعصبون لماو عدداً من المعابد الأصلية في الستينيات من القرن الماضي، ولكن في أواخر الثمانينيات، قام زوار الجبل، ومعظمهم من الطبقة العاملة، بجمع الأموال لإعادة بنائها، وخلال أكثر من 30 عاماً، كان هذا الحدث السنوي الذي يستمر 15 يوماً ذاتي التنظيم والتمويل. طوال العقدين الماضيين، شجعت السلطات هذا النشاط المجتمعي التقليدي، الذي اعتمد على الممارسات الشعبية الصينية الخاصة بقومية الهان، كقوة تحقق توازناً مفيداً في وجه ديانات مثل المسيحية، التي تعتبرها أجنبية وخاضعة لتأثير خارجي. أمطر المسؤولون الحج بتغطية إعلامية إيجابية، ما سمح له بالنمو بسرعة ليصبح أحد أكبر المهرجانات الدينية في البلاد، ويجذب مئات الآلاف من الزوار.

لكن الرعاية الحكومية تحولت الآن إلى إشراف حكومي. على مدى العقد الماضي، فرضت الحكومة قواعد على المواقع الدينية في جميع أنحاء الصين، وأغلقت أماكن العبادة غير المرخصة، ومنعت القاصرين من حضور المراسم الدينية، وأصرت حتى على رفع العلم الوطني في المواقع الدينية. وفي حالة الجبل المقدس بالقرب من بكين، أحالت الحكومة إدارة مجمع المعبد هناك إلى شركة مملوكة للدولة نشرت حراس أمن خاصين وأفراد شرطة يرتدون الزي الرسمي لحراسة الأضرحة، كما نشرت البروباغندا الحزبية في جميع أنحاء الجبل. وبالقرب من القمة، وبجوار ضريح إلهة الرحمة البوذية، نصب مديرو المؤسسة الحكومية لوحة إعلانية عملاقة مزينة بالمطارق والمناجل. وعرضت إحدى تلك اللوحات قسم الولاء الذي يجب على الأعضاء الجدد أداؤه عند انضمامهم إلى الحزب، فيما أعلنت لوحة أخرى بأحرف كبيرة: “الحزب في قلبي. اتبع نهج الحزب إلى الأبد”.

ونتيجة لهذا التسييس العلني، انخفض عدد الزوار، وفي بعض أيام هذا الربيع لم يأت أي زائر على الإطلاق، وكثير من الأشخاص الذين يحضرون إلى المعبد أو يعملون هناك يتمتعون بوطنية شديدة ويدعمون نهج الحزب في قضايا متعددة. إذا تناولت مثلاً موضوعاً يتعلّق بالولايات المتحدة، أو الحرب في أوكرانيا، أو الغزو المحتمل لتايوان، فسوف يجادلون بحماس بأن الأميركيين يسعون في احتواء الصين، وأن واشنطن هي المسؤولة عن هجوم روسيا على أوكرانيا، وأن تايوان يجب أن تتحد مع الصين وإلا فستتعرض للغزو. لكنهم يشعرون بالفزع أيضاً بسبب تباطؤ الاقتصاد، وطريقة تعامل الحكومة مع الوباء، و”الدورات الدراسية” السياسية التي تُعطى في أماكن العمل، وحتى سائقو الحافلات صاروا مجبرين على الاستماع الآن إلى محاضرات في “فكر شي جينبينغ” وتنزيل تطبيقات الهاتف المحمول التي ترشد المستخدمين حول أيديولوجية الحزب. أثناء مراقبة فرقة من ضباط الشرطة تمر أمامه، أعرب أحد المديرين الذين عملوا في الجبل منذ تسعينيات القرن الماضي عن خيبة أمله بسبب التغيير الكبير الذي طرأ على الحج. وقال: “في الصين اليوم، لا يمكنك فعل شيء من دون الاهتمام بأمر واحد أولاً، وهو الأمن القومي.

ولعل الأمر الأكثر أهمية هو حضور الدولة الآن في كل زاوية من زوايا الحياة الفكرية الصينية. لطالما نظر القادة الصينيون إلى الجامعات بعين الريبة إلى حد ما، فكانوا يعينون أمناء الحزب للإشراف عليها ويحيطونها بالجدران. ومع ذلك، لعقود من الزمن، شكّلت الجامعات أيضاً موطناً للأكاديميين ذوي التفكير الحر، ونادراً ما كانت أبوابها توصد في وجه الزوار. ولكن منذ وصول شي إلى السلطة، ألغيت هذه الحريات تدريجاً. في عام 2012، بدأت الحكومة بفرض حظر على تدريس مواضيع مثل حرية الإعلام، واستقلال القضاء، وتعزيز المجتمع المدني، والتحقيق التاريخي المستقل. ثم، مع ظهور الوباء، وسّعت الحكومة نطاق المراقبة وأضافت تدابير أمنية جديدة أصبحت منذ ذلك الحين دائمة، فحولت الجامعات إلى حصون.

في أحد أيام شهر مايو، رتبتُ لقاءً بين أستاذ وأربعة من طلابه المتخرّجين في جامعة مينزو الصينية، وهو حرم جامعي محاط بالأشجار على الجانب الغربي من بكين تم تأسيسه لتدريب القادة الجدد بين الأقليات العرقية التي لا تنتمي إلى قومية الهان، وهي أقليات معترف بها في البلاد ويبلغ عددها 55، مثل التبتيين والأويغور والمنغوليين. قبل الوباء، كنت أقابله عادة في الكانتين أو مقهى الجامعة. الآن، يجب على الزوار الذين يدخلون الحرم الجامعي أن يعرضوا وجوههم أمام الكاميرا عند الباب الدوار حتى تعرف السلطات من الذي يدخل المكان على وجه التحديد. لذا، اقترح الأستاذ أن نجتمع خارج الحرم الجامعي في مطعم منغولي، واستخدمنا غرفة خاصة لنتفادى أن يتنصّت أحد إلى حديثنا. وقال: “ربما من الأفضل ألا يعلموا أننا نلتقي”.

وكان الأستاذ بالكاد منشقاً، فهو يدعم بقوة التوحيد مع تايوان وقد بحث في الجذور الثقافية المشتركة للمجتمعين الصيني والتايواني. وبمساعدة المسؤولين المحليين، أعاد بناء مكان اجتماع تقليدي لأفراد إحدى العشائر في مسقط رأسه بجنوب شرق الصين. وفي السنوات السابقة، سافر أيضاً إلى أماكن كثيرة وحصل على زمالات في الخارج، ويعمل الآن على تأليف كتاب عن حركة دينية ترسخت في الصين في عشرينيات القرن الماضي.

وعلى رغم ذلك، على مدى العقد الماضي، أعاقت الحكومة على نحو متزايد عدداً كبيراً من بحوثه. ويحتاج الآن إلى موافقة لحضور مؤتمرات في الخارج، كما عليه إرسال كتاباته للتدقيق قبل نشرها. ولا يمكن نشر كتابه الجديد في الصين لأن المناقشات حول الحياة الدينية، حتى تلك التي جرت قبل قرن من الزمان، تعتبر حساسة. كذلك، عرقلت السلطات الحكومية تماماً صدور مجلة الأنثروبولوجيا التي كان يحررها لدرجة أنه استقال من منصبه. وعلى مدى السنوات الثلاث الماضية، أصدرت المجلة 12 عدداً، لم يتجاوز الرقابة إلا واحد منها.

أخبار مرتبطة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى