عبد ربه: عرفات كان مشاكساً مع القذافي… والعسكريون السوريون توارثوا كراهيته
تابع_ «الشرق الأوسط» تعيد فتح دفاتر الرحلة الفلسطينية بمفاوضاتها الشائكة وعلاقاتها الصعبة (الحلقة ما قبل الأخيرة)
لما يجري في غزة علاقة بالظلم الإسرائيلي المتمادي، خصوصاً إصرار الحكومات الإسرائيلية المتعاقبة على التهرب من استحقاقات السلام. تفاقم هذا الظلم بعدما اتخذ الرئيس الفلسطيني الراحل ياسر عرفات قرار التوقيع على اتفاق أوسلو في 13 سبتمبر (أيلول) 1993.
راهن عرفات على أن يكون اتفاق أوسلو خطوة أولى لقيام دولة فلسطينية على بعض الأرض، لكن بنيامين نتنياهو بنى سياسته على اغتيال الاتفاق ومفاعيله. ولاتفاق أوسلو علاقة بما سبقه، خصوصاً حروب العواصم والعلاقات الشائكة التي قامت بين منظمة التحرير وبعض الدول العربية البارزة.
كان الغرض من الحوار مع ياسر عبد ربه، أمين السر السابق للجنة التنفيذية لمنظمة التحرير الفلسطينية، ربط الحاضر ببعض الماضي؛ لتسليط الضوء على أحداث لم يتيسر لمن ولدوا بعد أوسلو أن يعايشوها. وهنا نص الحلقة الثالثة والأخيرة:
سألت عبد ربه كيف تعامل عرفات مع هجمات 11 سبتمبر 2001، وعن رفض الرئيس جورج بوش مصافحة الزعيم الفلسطيني في مقر الأمم المتحدة، فتذكر: «أولاً عدم مصافحة جورج بوش هي نتيجة لما رآه الأميركيون اختباراً تلو الاختبار لياسر عرفات، وأن الأخير فشل في الاختبار لجهة إدانة الأعمال التي كانت تقوم بها «حماس» وفصائل أخرى تستهدف المدنيين، ولأنه لم يقم بما يكفي من أجل منع تلك الأعمال، وأن ياسر عرفات أيضاً كان متواطئاً إلى حد ما. ودليلهم على ذلك سفينة «كارين أيه» وغيرها.
كان تصريح جورج بوش الشهير بأن «الشعب الفلسطيني يستحق ما هو أفضل من هذه القيادة الفلسطينية، وهي متورطة في الإرهاب». وعملياً أوجد تصريحه وضعاً انتقلنا فيه فعلاً لمرحلة جديدة بالكامل، مرحلة القطيعة مع الإدارة الأميركية، وإشهار هذه الإدارة العداء الكامل لشخص عرفات، عدا عن العداء للسلطة ككل تحت قيادته.
بعدها طرحوا فكرة أن عرفات يمكن أن يظل رمزاً، ولكن من دون صلاحيات تنفيذية واسعة، وأن تُحال هذه الصلاحيات التنفيذية إلى رئيس وزراء كان الأميركيون قد حددوه سلفاً وهو الأخ محمود عباس «أبو مازن». هذا كان الجانب الأول من عدم المصافحة لأن الإدارة الأميركية كانت قد أعلنت عملياً القطيعة مع ياسر عرفات، ولذلك امتنع بوش عن مصافحته.
على رغم الأجواء التي كانت سائدة فإن ياسر عرفات ذهب (إلى الجمعية العامة للأمم المتحدة)، وجلس متوقعاً أن تحصل المصافحة. ويومها قال بوش لكوفي أنان (الأمين العام السابق للأمم المتحدة)، إن هذا الرجل يريدني أن أصافحه فليصافح نفسه.
عرفات في 11 سبتمبر: هذه طائرات وهمية
هذه كانت طريقة جورج بوش. في 11 سبتمبر، أنا شاهدت الأحداث على التلفزيون من بيتي في رام الله. أخذت سيارة وانتقلت إلى غزة فوراً، كانت الطريق مفتوحة والمسافة قريبة وتستغرق ساعتين أو أقل، فوجدت ياسر عرفات وحده بالمكتب. كانت فترة بعد الظهر تقريباً بتوقيتنا. وفور وصولي قال لي: أخشى أن يكون هناك طرف فلسطيني أو يد فلسطينية في هذه العملية، لذلك أول نظرية كانت عنده أن هذه طائرات وهمية اخترعت في التصوير على التلفزيون. قلت له: أبو عمار، هذه طائرات حقيقية ضربت البناية. قال: لا، لا، وهمية. الانفجار تم من داخل المباني وليس من خارجها. ما هو الفرق بين داخل المباني وخارجها؟ فقال لي: أنا خائف أن تكون الطائرات فلسطينية. طيب إذا افترضنا أنها فلسطينية فهذا لا يلغي أنه من الخارج.
تذكر عرفات خطف الطائرات على أيدي الفلسطينيين، واعتقد أن هذه يمكن أن تكون واحدة من المغامرات التي قمنا بها في الماضي ومجددة بطريقة مختلفة. قلت له: لا، دعنا نتريث. فعلاً هوية الخاطفين المنفذين لم تتضح يومها. سأل عرفات: ماذا يفعلون في العالم؟ أجبت. كما سمعت، فتحوا حملات تبرع بالدم، دعنا نطلع للتبرع بالدم. قال: أنا رجل كبير بالسن، والتبرع بالدم ممكن يضعفني. قلت له: سنجد حلاً لهذه القضية. المهم أن تقوم بخطوة رمزية وليس المهم أن يأخذوا دماً أو لا يأخذوا، هي خطوة رمزية.
فعلاً، انتقلنا إلى مستشفى الشفاء واصطف عدد من مرافقي ياسر عرفات ومن المواطنين ومن المرضى ومن الأطباء للتبرع بالدم. والمهم أيضاً أننا أحضرنا كاميرات التلفزيون لتصور هذا المشهد. لم يرتح عرفات إلا إذا عندما تيقن أنه ليس هناك أي ضلوع فلسطيني في هذه العملية. وكان هذا متأخراً، يمكن في اليوم التالي أو الذي يليه، عندما تولى أسامة بن لادن الإعلان عن مسؤوليته. ياسر عرفات للأسف كان أيضاً لا يرى أن هذه العملية ستغير من اتجاه سياسة الولايات المتحدة تجاه المنطقة وتجاه أعمال الإرهاب. فصل بين هذه العملية وما يمكن أن يكون عليه سلوك الولايات المتحدة. وهذا أدى لتدهور مكانته بالتدريج عند الأميركيين لحد القطيعة الكاملة».
العلاقة الشائكة مع حافظ الأسد
لم تقم علاقة عادية أو ودية أو طبيعية بين ياسر عرفات وحافظ الأسد. ذهب ياسر عبد ربه إلى دمشق بمهمة بعد التدخل العسكري السوري في لبنان سنة 1976 والتقى الأسد. سألته: ماذا قال لك الأسد؟ فأجاب عبد ربه: «جرى اصطدام عسكري في صيدا (جنوب لبنان)، وأيضاً بعض الاصطدامات والمناوشات في منطقة صوفر (جبل لبنان) وغيرها، وتوترت الأجواء وحصلت مواجهة مسلحة بيننا وبينهم (السوريين)، فارتأت القيادة في بيروت ألا ندخل هذه المرحلة من الصدام. وأعتقد أن عدداً من الدول، بما فيها دول الخليج والسعودية بالذات، تدخلت لوقف هذا الاصطدام واحتوائه وتهدئة الوضع، لذلك وافق السوريون على استقبال وفد من عندنا يلتقي مع الرئيس الأسد، فذهبت أنا وفاروق القدومي الذي كان وزير الخارجية، وهو طبعاً رئيس الوفد، والتقينا الرئيس الأسد.
للمرة الأولى يدخل الأسد متجهماً ومعالم الغضب على وجهه. كان من عادته أن يكبت مشاعره، ومن الصعب عليك أن تقرأ في معالم في وجهه ما يدل على أنه سعيد أو غضبان أو موافق أو غير موافق… يعني هذا من المستحيلات. جلسنا فبادر هو. طبعاً، قبل الدخول إلى الاجتماع اشترط عليّ القدومي أن نلعب لعبة مزدوجة، هو الطرف الهادئ والذي يحاول تليين الأمور وأنا الطرف المتشدد قليلاً، يعني المشاغب. طبعاً هو لأن جذوره «بعثية» ولا يريد أن يقطع الحبال نهائياً. المهم، فاجأنا الأسد فوراً وقال: «هيك بتعملوا؟» قلنا: خيراً يا سيادة الرئيس؟ قال: السوريون الذين دخلوا إلى صيدا قطعتم رؤوسهم وتلعبون بها «فوتبول» (كرة قدم) في الشوارع.
أول مرة نسمع هذه التهمة. كان هناك ضابط سوري يبدو تائهاً، فبدل أن يسلك طريق جزين سلك طريق صيدا ولم يجد نفسه إلا في وسط مدينة صيدا، في الساحة، ومعه دبابتان أو ثلاث دبابات… فوجئت الميليشيات الموجودة في صيدا بالأمر وأطلقوا على إحدى الدبابات قذيفة «آر بي جي»، فصار الجنود يصرخون: نحن جنود سوريون… لم يكن أحد «فاهم شو الطبخة»، فأمسكوا نحو 40 جندياً سورياً كانوا آتين بشاحنتين إلى المنطقة من دون حماية أو أي ترتيب مع أحد، وقائدهم ظل مستمراً من دون أن يعرف إلى أين هو ذاهب. فشل عسكري ذريع. الشبان في صيدا، سواء كانوا فلسطينيين أو لبنانيين، أخذوا الأربعين جندياً ووضعوهم في مكان، مدرسة، وأطعموهم وشربوهم وتعاملوا معهم ليسوا بوصفهم أسرى حرب ولم يتعرضوا لهم بإيذاء، ونحن كنا متأكدين من هذا قبل أن نذهب (إلى دمشق)، وطلبنا من الجانب السوري أن يأتي ليأخذهم أو يتولاهم أحد. كان وقتها قراراً، حتى كمال جنبلاط، يعني: هل يعقل أن نأخذ أسرى سوريين؟
تصديت (لكلام الأسد) وقلت له: سيادة الرئيس، كيف هذا الكلام؟ أولاً من المعيب أن يستخدم أحد تعبير أسرى. الجنود السوريون ليسوا أسرى. ثمة خطأ وقع فيه قائد ووجد نفسه في صيدا، وعناصر الميليشيا في صيدا رأوا دبابات لا يعرفون لمن هي، فحصل احتكاك معها ولحسن الحظ لم يصب أحد بإطلاق النار، والأربعون جندياً موجودون وليس هناك قطع رؤوس. فقال: والله هذه هي التقارير التي وردتني، فهل يكتبون لي تقارير كذباً؟
قلت: نرجوك تأكد، ليس هناك أي شخص مصاب، ومن أجل زيادة في التأكد ليبعثوا أحداً أو أي جهة تتسلّمهم. نريد نقلهم بالباصات لكننا لا نعرف إلى أي جهة نرسلهم. قال: حسناً سأتأكد من الموضوع. وكانت حينها معركة تل الزعتر مفتوحة، فطلبنا منه أن يتدخل في معركة تل الزعتر لوقفها؛ لأنها ستنتهي بمجزرة، لأن المخيم محاصر ومطوق وعليه قصف، ولم نكن نريد أن نتحدث صراحة عن سلوك بعض ضباطه. قال: «بيصير خير». لم ينطق بأنه سيحاول المساعدة بل قال: «بيصير خير إن شاء الله». وطلعنا على هذا الأساس. طبعاً اتفقت مع الأخ فاروق ألا نروي كل الرواية؛ لأنه أولاً إذا رويتها فكثير أو البعض له علاقات مع سوريا ولم يقطعها، فلا نريد الإساءة إلى الرئيس الرمز».
«من قتل كمال جنبلاط؟»
زيارة أخرى صعبة لدمشق شارك فيها عبد ربه بعد اغتيال الزعيم اللبناني كمال جنبلاط الذي عارض التدخل العسكري السوري في لبنان. وها هو يسترجع تلك المحطة: «عدنا من القاهرة بعد انعقاد المجلس الوطني الفلسطيني. وكان لا بد من أن نزور سوريا وحافظ الأسد لنطلعه على النتائج كشيء بروتوكولي معتادون عليه مع قيادتي مصر وسوريا. حصل اغتيال كمال جنبلاط بالتزامن مع دورة المجلس الوطني، أي قبل أيام من زيارتنا لدمشق. سمينا الدورة وقتها «دورة الشهيد كمال جنبلاط» تقديراً له. عندما دخلنا على الرئيس حافظ الأسد أخبره ياسر عرفات بأننا سمينا الدورة «دورة الشهيد كمال جنبلاط»، فسارع الرئيس الأسد إلى القول: من برأيك يا «أبو عمار» اغتال كمال جنبلاط؟
أنا جالس إلى جانب الرئيس (عرفات)، ومعي أعضاء آخرون من اللجنة التنفيذية – قيادة منظمة التحرير. أنا من الناس الذين بدأوا يتوترون بانتظار رد عرفات. عرفات على طريقته عندما يكون غير قادر على إعطاء جواب وأمام وضع محرج للغاية تصبح رجلاه تتحركان ويكرر الكلمات. بعد قليل قال له: من غيرهم يا سيادة الرئيس؟ من غيرهم؟ من غيرهم؟ فأنا خفت يقول: حضرتك يا سيادة الرئيس، فقال الأسد له: من تعني يا «أبو عمار»؟ فأجاب: طبعاً إسرائيل.
ارتحتُ قليلاً، لكن الأسد أكمل: لماذا تعتقد يا «أبو عمار» أنها إسرائيل وليس غيرها؟ فقال له: أنا أعرف المنطقة التي كان فيها كمال جنبلاط. تنزل نزولاً، وفي آخر النزول توجد تحويلة ثم تبدأ بالصعود. هم كمنوا له عند التحويلة، من يقدر يفعل ذلك غير إسرائيل؟».
عرفات لم يؤيد توسيع الحرب في لبنان
اتُهم ياسر عرفات بأنه حرض كمال جنبلاط على نقل الحرب إلى الجبل، هل صحيح هذا الاتهام؟ يجيب عبد ربه: «بصراحة، أبداً. أنا أعتقد أن كمال جنبلاط كان يريد من المقاومة الفلسطينية بقواتها كلها أن توسع الجبهة في الجبل، بل هو الذي يمكن أنه أشرف حتى على حشد قوات الحزب الاشتراكي (الذي يقوده) في منطقة الجبل، وفي المنطقة المشرفة على الكحالة، من عاليه نزولاً. وطلب اشتراك «فتح» في العملية.
«فتح» لم تشترك، وإذا اشتركت اشتركت بطريقة رمزية. الذي اشترك بقوة كبيرة أتصور «الجبهة الديمقراطية» وتمت خسارة نحو عشرين مقاتلاً من الجبهة التي تصدى لها الجيش اللبناني، ليس فقط «الكتائب» أو «القوات اللبنانية» أو غيره. ياسر عرفات فوجئ بالصعود إلى الجبل. أنا واثق بأنه لم يكن في خطته الصعود للجبل ولا التحول إلى بكفيا من ناحية ضهور الشوير والنزول، كما كان يتوقع آخرون.
الذي اندفع في هذا الاتجاه هم ضباط ما يسمى بـ«تكتل أبو موسى وأبو خالد العملة». ياسر عرفات لم يبد المعارضة الكافية لمنع انخراطهم في هذه العملية. لكن لم يكن القرار بادئ ذي بدء من عند عرفات. كمال جنبلاط كان متحمساً للعملية، الصعود إلى الجبل وكسر ظهر القوات الكتائبية وتطويق المنطقة. ما كان ممكناً لأحد أن يصعد إلى الجبل ومنطقة عاليه إلا بموافقة اشتراكية.
وياسر عرفات لم يكن مؤيداً أيضاً لاجتياح بلدة الدامور اللبنانية. ياسر عرفات لبنانياً لم يقطع محاولات إعادة الاتصال بالطرف الآخر كما يسمونه في لبنان، أي «الكتائب» وكميل شمعون والآخرين. وكان يحرص على أن يبقي «شعرة معاوية» بهذه الاتصالات، وكان يشجع المقربين منه مثل أبو حسن سلامة وأبو الزعيم على أن يواصلوا هذه الصلات. ياسر عرفات، عندما حصل اقتحام الدامور، وبعد قصة تل الزعتر، هو الذي دفع بمجموعات وبقوات من عنده لمحاولة عدم تحويل الموضوع إلى مجزرة.
وأكثر من ذلك هو الذي أجرى اتصالات، كما أعتقد، مع شمعون لكي يذهبوا إلى السعديات، ومن هناك يتم نقلهم عن طريق البحر… كان هنا بعض المجانين الذين ربما أرادوا ارتكاب شيء من المجزرة بالكنيسة في الدامور؛ لأن ثمة أناساً لجأوا إلى الكنيسة، فأرسل من يحمي الكنيسة. أنا واثق، لم يتورط ياسر عرفات في الدخول بحرب قذرة من هذا النوع».