عبد العزيز وخزعل الكعبي… تكامل بين الحياد والمصلحة

نشأت بين الملك عبد العزيز والشيخ خزعل الكعبي حاكم الاحواز وما يسمى عرب ستان وعاصمتها المحمرة أحد ابرز العواصم الخليجية في تلك الفترة علاقة ودية تحكمها المصالح المتبادلة وتعزيز المكانه الإقليمة للطرفين، ضمن معادلة اقليمية متغيرة، واتسمت هذه العلاقة بينهما بين الحياد والمصلحة وفق ما عبرت عنه الدكتورة سامية سليمان الجابري، استاذ التاريخ الحديث المشارك في جامعة حائل، في حوار مع “الشرق الأوسط، تناولت فيه بداية العلاقة بين الزعيمين خلال مرحلة إعادة تشكل الكيانات السياسية في شبه الجزيرة العربية،
وجاء الحوار وفق ما يلي:
كيف تصفين العلاقة بين الملك عبد العزيز والشيخ خزعل الكعبي وظروف هذه العلاقة وما ما مثلته في تلك الفترة؟
في مرحلة التشكّل السياسي لما عرف لاحقًا بمصطلح ” الشرق العربي الحديث”، وفي إطار هذه التحولات، نشأت علاقة تكاملية ذات طابع استراتيجي بين الملك عبد العزيز بن سعود والشيخ خزعل الكعبي، تَجلّت بصورة واضحة في المراسلات المتبادلة واللقاءات الرسمية بينهما. ورغم اختلاف البيئة السياسية التي انطلق منها كلٌّ منهما، فقد أسست هذه العلاقة لنمط من التفاعل السياسي القائم على تبادل المصالح وتعزيز المكانة الإقليمية للطرفين ضمن معادلة إقليمية متغيرة.
منذ أن استعاد الملك عبد العزيز مدينة الرياض، أدرك أنّه يتعامل مع شبكة خارجية معقدة وحساسة من المصالح الإقليمية والدولية. وانطلاقًا من هذه الرؤية، سعى إلى بناء منظومة من العلاقات مع القوى المحلية أولًا، ثم وسّع دائرة تفاعلاته تبعًا لتنامي نفوذه السياسي والعسكري لتشمل قوى إقليمية أكثر فاعلية كبريطانيا. وقد حرص في هذا المسار على فتح قنوات تواصل مع زعامات مؤثرة على الضفة المقابلة من الخليج العربي، في إطار استراتيجية تستهدف تحقيق التوازن وحماية موقعه السياسي الناشئ. وفي المقابل، كان الشيخ خزعل يتطلع إلى إيجاد فضاء عربي-خليجي قادر على موازنة المركزية الإيرانية المتصاعدة في طهران.
دور الوسيط
ما هي جذور العلاقة بين الملك عبد العزيز والشيخ خزعل؟
يمكن إرجاع جذور العلاقة بين الملك عبد العزيز والشيخ خزعل إلى مرحلة مبكرة من مسار تأسيس الدولة السعودية على يد الملك عبد العزيز آل سعود، وتحديدًا خلال فترة إقامته عند الشيخ مبارك الصباح في الكويت، قبل استرداد الرياض. فقد أتاح هذا الظرف للملك عبد العزيز فرصة اللقاء المتكرر بالشيخ خزعل، الذي كان يتردد كثيرًا في زيارة الشيخ مبارك، بحكم العلاقات الوثيقة بينهما. وقد اقتصرت طبيعة العلاقة بين الملك عبد العزيز والشيخ خزعل على دور الوسيط الذي اضطلع به الأخير، لا سيما في الخلافات التي تكون الكويت أحد أطرافها. وهو ما جعل مواقف الشيخ خزعل السياسية مرتبطة إلى حدّ كبير بمصالح الكويت وتوجهاتها، فضلًا عن الروابط الشخصية التي جمعته بأمرائها.
حليف موثوق
ماذا عن الوساطة البريطانية عبر الشيخ خزعل في أزمة الأحساء والعجمان 1913م؟
يُعدّ الدور الذي لعبه الشيخ خزعل في أزمة الأحساء والعجمان عام 1913م نموذجًا واضحًا لتلك الوساطات التي تولّاها بتوجيه بريطاني، وتماشيًا مع المصالح الكويتية. ففي ذلك العام، نجح الملك عبد العزيز في استرداد إقليم الأحساء من الحكم العثماني، مما تسبب في نشوء خلاف حاد مع قبيلة العجمان التي رفضت الانصياع للحكم الجديد، وانسحبت إلى حدود الكويت طلبًا للحماية، فاستقبلهم الشيخ مبارك الصباح وأعلن حمايته لهم. وقد اعتبر الملك عبد العزيز موقف الشيخ مبارك تدخّلًا مباشرًا في شؤونه الداخلية، وأبدى عزمه على محاصرة العجمان داخل الأراضي الكويتية، وهو ما أثار قلقًا كبيرًا لدى البريطانيين الذين كانوا يحرصون في تلك المرحلة على منع أي مواجهة عسكرية بين القوى الإقليمية في الخليج، خشية أن يؤدي ذلك إلى تهديد أمن طرق التجارة والنفوذ البريطاني في المنطقة.
مؤتمر الكويت بين النجاح والفشل
ما هي ظروف دعوة الشيخ خزعل للملك عبد العزيز إلى مؤتمر الكويت بعد احتدام النزاع بين بريطانيا والدولة العثمانية؟
قبل انعقاد المؤتمر، لعب الشيخ خزعل دورًا بارزًا في التمهيد له؛ إذ وجه رسالة إلى الملك عبد العزيز آل سعود يدعوه فيها إلى المشاركة، مؤكّدًا متانة العلاقة التي تربطهما، ومستندًا إلى الروابط الوثيقة بين الملك عبد العزيز وأمير الكويت، التي انعكست سابقًا في تجاوب الشيخ مبارك الصباح مع بعض مطالب عبد العزيز، ومنها ما يتعلق بقضية العجمان. وفي رسالته تلك، لم يغب عن الشيخ خزعل التأكيد على أهمية توطيد علاقة الملك عبد العزيز بالحكومة البريطانية، التي كانت تُظهر نفسها في تلك المرحلة كراعٍ لمصالح العرب وداعمٍ لنهضتهم السياسية.
اتفاقية المحمرة بين نجد والعراق
ما هو الدور الذي اضطلع فيه الشيخ خزعل لحل الخلافات والنزاعات الخيجية خصوصاً بين نجد والعراق
في محاولات تسوية النزاعات الخليجية، اضطلع الشيخ خزعل بدور مهم في حل الخلاف القائم آنذاك بين نجد والعراق، والذي تمحور حول تبعية بعض القبائل الحدودية، إلى جانب إشكالات تتعلق برسوم الحدود المشتركة حيث استضاف مفاوضات رسمية بين ممثلي الطرفين في عاصمة إمارته، مدينة المحمرة .مثل الجانب النجدي أحمد الثنيان آل سعود، بينما مثّل العراق صبيح نشأت، وبحضور المندوب السامي البريطاني السير برسي كوكس، في تأكيد واضح على رعاية بريطانيا للمفاوضات، وسعيها إلى احتواء النزاع ضمن الأطر السلمية التي تحفظ مصالحها الاستعمارية في الخليج والعراق.
ومع أن الاجتماعات أسفرت عن مشروع اتفاق مبدئي، فإن هذا الاتفاق لم يحظَ بمصادقة رسمية من قبل القيادتين في نجد والعراق، لأسباب سياسية تتعلق بعدم توافق الرؤى بشأن الحدود القبلية، ورفض بعض الشيوخ المحليين للقرارات المقترحة. وقد أدى ذلك إلى تعليق تنفيذ الاتفاق، وبقيت المشكلة الحدودية عالقة رغم الجهود الدبلوماسية التي بذلت في المحمرة. وفي العام التالي، أي في عام 1922م، تم تجاوز هذه العقبة عبر عقد مؤتمر العقير الشهير، والذي جاء بمبادرة من بريطانيا، وحضره الملك عبد العزيز بن عبد الرحمن آل سعود شخصيًا، إلى جانب المندوب البريطاني السير برسي كوكس، وممثلين عن العراق. وقد خلُص المؤتمر إلى ترسيم رسمي للحدود بين نجد وكل من الكويت والعراق، وهو ما شكّل خطوة حاسمة في إنهاء الخلاف الحدودي الطويل، وأرسى قواعد جديدة لتنظيم العلاقات بين الأطراف الثلاثة.
أثمر هذا التفاهم عن استقرار سياسي نسبي في المناطق المتنازع عليها، وعودة العلاقات بين نجد وجيرانها إلى مسارها الطبيعي، حيث أصبحت تحكمها روابط الجوار، والتاريخ، والمصالح الاقتصادية والاجتماعية المشتركة. ورغم أن دور الشيخ خزعل في مفاوضات المحمرة لم يحقق نتائج مباشرة، إلا أنه يُحسب له أنه ساهم في تهيئة مناخ الحوار، وساهم بدور غير مباشر في التمهيد لمخرجات مؤتمر العقير، الذي غيّر خارطة الحدود في شمال الجزيرة العربية.
موازنة المصالح في الخلافات الإقليمية
هل يمكن القول أن الشيخ خزعل كان فاعلاً سياسيا مستقلا وأن مواقفه تجاه القضايا الخلافات العربية تنطلق من موقف ذاتي؟
ارتبطت العلاقات السياسية للشيخ خزعل الكعبي، بعمق بالمعادلات الإقليمية السائدة في شبه الجزيرة العربية خلال أواخر القرن التاسع عشر وبدايات القرن العشرين، ولم تكن علاقاته مستقلة أو منفصلة عن التوجهات الكويتية أو السياسات البريطانية في الخليج، بل كانت تتحرك ضمن هذا الإطار وتُعاد صياغتها وفقًا لمواقف القوى التي كان يعتبرها حلفاء إستراتيجيين، وعلى رأسهم الكويت وبريطانيا. فقد اتّسم موقف الشيخ خزعل تجاه الكيانات السياسية في شبه الجزيرة العربية، وخاصةً إمارة آل رشيد في حائل، بالتبدّل والتأثر بالظروف، إذ لم تربطه بها علاقات مباشرة أو ثابتة، بل كان موقفه يتغيّر تبعًا لمواقف الكويت وتوجهاتها السياسية. أو بدافع ينسجم مع التوجه البريطاني في المنطقة. وعليه، فإن موقفه من آل رشيد كان مرآةً لموقف الكويت، فإذا كانت الكويت على خلاف مع آل رشيد، وقف الشيخ خزعل إلى جانبها. وإذا رأت الكويت التقارب أو التهدئة، تبنّى الموقف ذاته.
ولعل من أبرز الشواهد على هذا الارتباط، تدخله النشط والفعّال لحل الخلاف الذي نشب بين الشيخ مبارك الصباح وأمير حائل آنذاك عبد العزيز بن متعب آل رشيد، حيث لعب الشيخ خزعل دور الوسيط، ونجح في احتواء التوتر بين الطرفين، ما يعكس انسجامه مع التوجه الكويتي وسعيه لدعم استقرار موقف حليفه الأساسي، الشيخ مبارك. وفي سياق مماثل، حاول الشيخ خزعل لاحقًا لعب دور الوسيط في الخلاف بين نجد وحائل حيث بعث رسالة وساطة إلى الملك عبد العزيز تضمنت مبادرة منه بشأن التهدئة بينه وبين عبد العزيز بن رشيد. في محاولة منه لتقريب وجهات النظر وتخفيف حدة الصراع، إلا أن مساعيه لم تثمر هذه المرة، ولم ينجح في تحقيق تسوية ذلك لأن ا لملك عبد العزيز رفض مضمون الوساطة، معللًا ذلك بما قام به عبد العزيز بن رشيد من تجاوزات.
شكلت معركة روضة مهنا عام 1906، التي انتصر فيها الملك عبد العزيز على ابن رشيد، نقطة تحول حاسمة في المشهد السياسي في الجزيرة العربية. فبعد هذا الانتصار، بدأت كفة الملك عبد العزيز ترجح بوضوح، وظهرت مؤشرات على قرب سقوط إمارة آل رشيد، مما عزز من احتمالية توسع الملك عبد العزيز شمالًا باتجاه حائل، وربما أبعد من ذلك نحو حدود الكويت. هذا التحول أثار قلق الكويت وبريطانيا معًا، حيث خشيتا من أن يؤدي توسع النفوذ السعودي إلى تقليص نفوذهما في شمال الخليج.
وفي هذا الإطار، بادر الشيخ مبارك الصباح بعرض فكرة على بريطانيا، تمثّلت في أن تتولى الأخيرة حماية متعب بن عبد العزيز آل رشيد، بهدف إيقاف زحف الملك عبد العزيز نحو الشمال، وتأمين الحدود الكويتية من أي تهديد محتمل. ومن الواضح أن هذا الطرح لم يكن بمعزل عن دعم وتأييد الشيخ خزعل، الذي كان يرى في تحالفه مع الكويت وتحقيق الاستقرار السياسي مصلحة مباشرة له، لا سيما في ظل نفوذ بريطانيا القوي في المنطقة.
وعند دراسة المشهد السياسي بشكل عام، يتبين أن علاقة الشيخ خزعل بالملك عبد العزيز لم تكن علاقة عداء، لكنها في الوقت ذاته لم تُبنَ على التحالف المستمر، بل كانت خاضعة لمتطلبات الواقع السياسي، وكانت قائمة على مصالح متبادلة ومحدودة، غالبًا ما تدور حول تسوية الخلافات بين نجد والكويت، أكثر من كونها علاقة ثنائية مستقلة.
من جهة أخرى، يتضح أن سياسة الشيخ خزعل لم تتصف بالحياد في الملفات الإقليمية، بل كانت تميل بوضوح لصالح الكويت، وكان دعمه لها يمتد إلى الجوانب السياسية والعسكرية على حد سواء. فجميع وساطاته وتحركاته الدبلوماسية كانت تصب في حماية المصالح الكويتية وتثبيت موقعها الإقليمي، إما بحكم العلاقات التاريخية والمصلحية التي ربطته بأسرة الصباح، أو تأثرًا بالتوجهات البريطانية التي كانت تمارس نفوذها غير المباشر عبر حلفائها المحليين.