ضغوط ترامب وتعهدات بانفاق ضخم..من يدفع ثمن الأمن في الناتو؟

كتب آرثر سوليفان في صحيفة DW.
خرج الرئيس الأمريكي دونالد ترامب من قمة الناتو منتشيا، فقد حصل على تعهد من دول الحلف بزيادة إنفاقها العسكري بشكل كبير.
وفي إعلانها الختامي خلال قمة لاهاي الشهر الماضي، تعهدت الدول الأعضاء الـ32 في الحلف باستثمار 5% من ناتجها المحلي الإجمالي السنوي في مجال الدفاع بحلول عام 2035.
ووصف ترامب هذا التعهد بأنه “انتصار عظيم”، وهو ما كان يضغط من أجله منذ سنوات. ورغم شعوره بالانتشاء، إلا أن ترامب احتفظ بانتقاداته المعتادة، والتي انصبت على دولة بعينها، وهي إسبانيا.
فقد غادر رئيس الوزراء الإسباني بيدرو سانشيز القمة وقد حصل على استثناء يسمح له بعدم زيادة الإنفاق على الدفاع. وأعلن أن إسبانيا ستنفق فقط ما يصل إلى 2.1%، واصفا ذلك بأنه “كاف وواقعي”.
وانتقد ترامب إسبانيا بعد القمة، قائلا إنها تريد “ركوب الموجة مجانا بعض الشيء”، وإنها “ستضطر إلى تعويضنا عن ذلك عبر التجارة” من خلال فرض رسوم جمركية أعلى عليها.
وفي النهاية، حصلت إسبانيا على توافق مع الناتو منحها خيارا فعالا للخروج من هذا النفق، لكن الأمر أثار تساؤلات حول مدى قدرة دول الناتو الأخرى على الوفاء بتعهدات زيادة الإنفاق.
ميزانيات مكبلة
ترى فينيلا ماكغيرتي، الباحثة البارزة في الاقتصاديات العسكرية بالمعهد الدولي للدراسات الاستراتيجية، أن خيار رفع ميزانية الدفاع يمثل تحديا سياسيا، خاصة وأنه يتزامن مع تخفيضات في الإنفاق العام.
وفي مقابلة مع DW، أضافت أن هذا الأمر “سيتطلب بعث رسائل قوية تحظى بقبول من الناخبين وحتى من جميع الحكومات”.
ونوهت بأنه عندما أشارت إسبانيا في أبريل/ نيسان الماضي إلى احتمالية زيادة الإنفاق الدفاعي، حرص سانشيز على التأكيد أن هذه الزيادة لن تفاقم الديون أو تؤثر على الإنفاق الاجتماعي.
من جانبها، تعتقد إيلكي تويغور، مديرة مركز السياسات العالمية بجامعة معهد الأعمال في مدريد (IE)، أن موقف إسبانيا كان جزئيا يتعلق بإجراء “حوار مفتوح” حول حقيقة أن إعطاء الأولوية للإنفاق الدفاعي سيؤثر على مجالات رئيسية أخرى من الميزانيات العامة، مما قد يؤدي إلى تداعيات صعبة.
وأضافت في حديث إلى DW أنه “إذا لم يكن هناك فهم لأهمية قضية مكافحة تغير المناخ أو القضايا الاجتماعية الأخرى مثل الإسكان أو دعم الصحة أو التعليم، فإن زيادة الإنفاق الدفاعي ستتسبب في تداعيات تعيق ما يصبو إليه القادة الأوروبيون”.
وشددت على حاجة أوروبا إلى تحقيق “استثمار دفاعي مستدام من شأنه أن يجعلها أكثر أمانا”، محذرة من أن “السخط العام إذا استمر فسوف يتسبب في تأثيرات سلبية”.
قفزة نوعية، ولكن؟
أشاد الأمين العام لحلف الناتو، مارك روته، بزيادة الاتفاق التي أقرها أعضاء الحلف، واصفا الخطوة بأنها ستؤدي إلى “قفزة نوعية” في الدفاع الجماعي، خاصة وأنها “تمهد الطريق أمام جعل الحلف أكثر قوة، ووضعت الأساس لجعل الحلف أقوى وأكثر عدلا”.
وتعتقد فينيلا ماكغيرتي أن تعهد عام 2035 هو “التزام كبير”، خاصة إذا تمكنت الدول الأوروبية المنضوية تحت لواء الناتو من “زيادة الإنفاق الدفاعي الأساسي إلى 3.5% من الناتج المحلي الإجمالي”.
وأشارت إلى أن الإنفاق الدفاعي الحالي يبلغ 2 بالمئة.
وينص التعهد الجديد على ضرورة تخصيص ما لا يقل عن 3.5% من الناتج المحلي الإجمالي لتمويل الأوجه الدفاعية الأساسية، بالإضافة إلى 1.5% أخرى مخصصة لتمويل مجالات مثل “البنية التحتية الحيوية، والدفاع عن الشبكات، وضمان حالة التأهب المدني والمرونة والابتكار وتعزيز المجال الصناعي الدفاعي”.
من جانبها، تسلط ماكغيرتي الضوء على أن التعهد بتعزيز الإنفاق يأتي “في وقت تئن فيه دول الناتو تحت وطأة ضغوط مالية كبيرة”.
وأضافت “أعتقد أن تخصيص نسبة 1.5% لمجالات مثل البنية التحتية يعد أمرا يحمل في طياته تعريفا واسعا يمنح الدول بعض المرونة. من المرجح أن العديد من الدول تنفق بالفعل هذا القدر على مجالات تمويل مثل ذلك”.
مأزق الديون
يشير خبراء إلى أن هناك شكوكا كبيرة حيال قدرة بعض دول الناتو على الوفاء بهذه الزيادة.
وبحسب بيانات الناتو، فقد حققت دول الحلف – باستثناء ثماني دول – هدف زيادة الإنفاق بنسبة 2% الحالية، بينما لحقت دول أخرى بهذا المعدل لاحقا.
ويقول الخبراء إن إسبانيا وبلجيكا وإيطاليا والبرتغال من بين الدول المتأخرة في الوفاء بنسب الزيادة الدفاعية المطلوبة، وهي جميعها تعاني من مشكلة ارتفاع الديون الحكومية التي تقترب أو تتجاوز 100% من الناتج المحلي الإجمالي.
وينوه الخبراء إلى أن اليونان تمثل “حالة فريدة من نوعها”، إذ تعاني من أعلى مستوى ديون على الإطلاق، لكنها في الوقت نفسه تخصص أكثر من 3% من ناتجها المحلي للدفاع.
وتشكك إيلكي تويغور فيما إذا كانت بعض دول شمال أوروبا قد فهمت حجم التحدي الذي تواجهه اقتصادات الدول التي تزيد إنفاقها الدفاعي وسط ديون مرتفعة، خاصة أن هذه الدول انتقدت خلال الأزمة المالية بين عامي 2008 و2009 مستويات ديون دول جنوب أوروبا.
وطرحت الباحثة الاقتصادية تساؤلا: “ماذا سيحدث إذا أقدمت هذه الدول خلال الخمس إلى عشر سنوات المقبلة على زيادة إنفاقها الدفاعي؟ فهل يعني هذا أن هناك حاجة إلى المزيد من الاستثمارات القادمة من القطاع الخاص؟”
وقالت إن هناك حاجة إلى “تقييم يتسم بقدر كبير من الإنصاف لمسألة الديون ومدى تأثيرها العام على الاقتصاد الأوروبي ككل”.
من جانبها، تقول ماكغيرتي إن الدول ذات الأوضاع المالية الجيدة مثل ألمانيا، يمكنها الاقتراض لتحقيق الأهداف، لكن ماذا عن الدول التي تئن تحت وطأة ديون طويلة الأمد؟
وأضافت أن هذه الدول من المؤكد أنها سوف تتردد في قضية الاقتراض.
وأشارت إلى أن الدول التي لم تحقق زيادة بنسبة 2% من الناتج المحلي، يحدوها الأمل في الوفاء بهذه النسبة دون الحاجة إلى الاقتراض، لكنها ستضطر إلى تبني خيارات صعبة لا يحبذها رؤساء الحكومات مثل سانشيز، أو يأملون في أن يهب القطاع الخاص لإنقاذهم.
وتعتقد ماكغيرتي أنه يجب تمويل الزيادات في الإنفاق العسكري من خلال وسائل أخرى مثل “زيادة الضرائب أو تخفيضات في مجالات الإنفاق العامة الأخرى، أو من خلال خيارات تمويل إبداعية مثل صناديق البنوك المركزية أو سندات الخزانة أو تعبئة الاستثمار الخاص”.
الأمن… سلعة غالية الثمن
وفي حين أن زعماء مثل سانشيز وآخرين قلقون بشأن الاقتراض والتخفيضات المحتملة في الإنفاق العام، يسلط خبراء الضوء على تحذيرات سابقة حيال تداعيات زيادة الإنفاق.
وأشارت ماكغيرتي إلى أن أمين عام حلف شمال الأطلسي، روته، صرح في ديسمبر/ كانون الأول الماضي أن الزيادات في الإنفاق الدفاعي ستؤثر بالضرورة على الإنفاق على المعاشات التقاعدية والتعليم والرعاية الصحية في الدول الأوروبية.
ويقول خبراء إن زيادة الإنفاق العسكري ستجلب مخاطر مالية أخرى، خاصة مع اندفاع أوروبا نحو بناء قطاع تسليح أوروبي.
وأشاروا إلى قضايا مثل ارتفاع التضخم في الصناعات الدفاعية، أو تعطل سلاسل التوريد، أو الحاجة إلى عمالة ماهرة، والتي ستتطلب زيادة المخصصات المالية.
وكانت كريستين لاغارد، رئيسة البنك المركزي الأوروبي، قد حذرت في مارس الماضي من أن زيادة الإنفاق الدفاعي قد تؤدي إلى ارتفاع معدلات التضخم.
ويشير الخبراء إلى أن هذا التحذير يحمل تذكيرا بأن الاندفاع لجعل أوروبا أكثر أمانا سيأتي بثمن كبير قد تضطر دول أوروبية إلى دفعه.