رأي

ضجة في البرلمان التونسي لجذب الانتباه

كتب مختار الدبابي في صحيفة العرب.

بعض النواب ما يزال تحت تأثير صورة البرلمان القديم، برلمان الاستعراض الكلامي وشيطنة الحكومة في العلن ومسايرة التكتلات والتوافقات في ما وراء الستار.

تشير الأنباء إلى أن بعض النواب في البرلمان التونسي يلوحون بالاستقالة، كاحتجاج على أداء الحكومة في معالجة ملفات اجتماعية وخدمة. من حيث المبدأ هذا شيء إيجابي يظهر أن البرلمان ليس تابعا للسلطة كما يتهمه الخصوم المعارضون. لكن واقعيا، فإن التلويح بالاستقالة لا يعبر عن وجود مقاربات تتعارض مع سياسات الحكومة، التي يرسمها ويأذن بتنفيذها، الرئيس قيس سعيد.

هؤلاء النواب تم انتخابهم تحت مظلة الرئيس التونسي قيس سعيد، واستفادوا بشكل تام من شعبيته واستخدموا شعاراته في الحرب على الفساد والاحتكار وإعادة الاعتبار لمناطق الداخل. هذا من ناحية، ومن ناحية أخرى، فإن نسبة انتخابهم كانت ضعيفة ودون المأمول بشكل يجعل وجودهم مرتهنا بالسلطة نفسها، التي وفرت لهم الغطاء الشعبي والسياسي للصعود.

وأي خروج عن هذه الشرعية سيعني آليا فقدان الغطاء الذي قاد هؤلاء النواب إلى البرلمان. كما أنه يقود إلى التشكيك في مسوغات الاستقالة لاعتبارات سياسية أو فكرية أو اختلاف في المقاربة الاجتماعية، ويحصر تلك المبررات في اعتبارات شخصية إما أن النائب الملوح بالاستقالة قد وجد نفسه عاجزا عن مجاراة النسق البرلماني ومتطلباته، أو أنه يبحث عن جذب الأنظار إليه إعلاميا وشعبيا وسياسيا حتى يبدو وكأنه غير تابع للسلطة، والإيحاء بأنه يضع ساقا معها وساقا خارجها، في مغازلة لخصومها واستعدادا لما قد يأتي من تغييرات بدأت المعارضة تتحدث عنها في سيناريوهات تبدو أقرب إلى التهويم منها إلى فرص واقعية.

لا يمكن للنواب لوم الحكومة على توجهات عامة مرتبطة بقناعات الرئيس سعيد ثم القول إن هؤلاء النواب يدعمون مسار 25 يوليو 2021 وأنهم مقتنعون به

من المهم الإشارة إلى النواب قد تم ترشيحهم ثم انتخابهم على قاعدة واضحة، وهي مقاربة تجعل الرئيس سعيد ماسكا بالقرار، وأن الحكومة ترجع له بالنظر وتأتمر بأوامره ومقترحاته، ولا سلطة للبرلمان عليها، فلا يسحب منها الثقة ولا يعترض على تركيبتها. العلاقة بين الطرفين تقوم على الحوار وليس على الإلزام، فرئيسة الحكومة يمكن أن تحضر جلسة البرلمان للرد على تساؤلات النواب وليس للمساءلة أو التلويح بحجب الثقة.

فلماذا ينقلب بعض النواب على القاعدة التي صادقوا عليها وترشحوا تحت مظلتها ورصدها دستور 2022 ويريدون الاحتكام إلى العلاقة التي أسس لها دستور 2014 الذي انتقدوه وساندوا التخلي عنه وانتقدوا النظام البرلماني الذي أسس لها، وتحكم السلطة التشريعية في المؤسسة التنفيذية، وجعل رئيس الحكومة مركزا القرار وحدد مربعا شرفيا لرئيس الجمهورية.

لا يمكن أن يترشح نائب على أرضية مقاربة واضحة ثم ينقلب عليها ويريد تطبيق نقضيها، أو الأخذ من كل مقاربة بطرف دون مراعاة الخلفيات السياسية لمثل هذه الازدواجية، فأن تكون ضد دستور 2014 كليا لا يبيح لك أن تأخذ منه ما به تستقوي على الحكومة أو تعطي نفسك مشروعية لمواجهة المشروع الذي ترشحت تحت مظلته.

هذه المقدمات النظرية مهمة في تفكيك خفايا تلويح بعض النواب بالاستقالة من البرلمان احتجاجا على تهميشه وعدم استجابة الحكومة لمطلب الرقابة والمساءلة. لكن الأهم هو التساؤل إن كان هؤلاء النواب ومن يدعمهم يمتلكون مقاربة واضحة لحل المشكلات التي ما تزال الحكومة تتعثر في تجاوزها، أم أن الأمر لا يتجاوز مجرد تسجيل موقف.

هناك مستويان من القضايا التي يتهم النواب الحكومة بالتقصير فيها، الأول يتعلق بالتنمية المحلية، وكل نائب يسعى لإظهار أنه حريص على منطقته فيرفع من سقف المطالب، ويرتقي الأمر أحيانا إلى المزايدة على الحكومة لاسترضاء سكان المنطقة والاشتغال على صورة للنائب تمكنه من العودة إلى البرلمان في انتخابات قادمة.

صحيح أن النواب يتعمدون التضخيم لخلق انطباع بأنهم يستحقون تمثيل المنطقة، لكن الحقيقة أن الجهود الحكومية في تحسين واقع الجهات الداخلية، وحتى في المدن الكبرى، بطيئة ومرتبكة لكونها واقعة تحت مظلة الخطاب الشعبي للرئيس سعيد، الذي يريد البرهنة للمناطق الداخلية أنه وفي لتعهداته.

أي قرار بالاستقالة قد يخدم صورة النائب بشكل مؤقت، لكن يفوت عليه فرصة الاستمرار في المطالبة بتحسين أوضاع المنطقة والضغط على الحكومة للاهتمام بمناطق الظل

لكن المشكلة أن التركة كبيرة من قبل الثورة وبعدها خاصة مع محدودية التمويلات الحكومية وتركيز الدولة على خيار “الاعتماد على الذات”، الذي يحد من فرصة تمويل مشاريع صغرى ومتوسطة في المناطق الداخلية، فضلا عن صعوبة تنفيذ مشاريع ذات قيمة على مستوى البنية التحتية المتآكلة بسبب الفساد والتهميش.

وأي قرار بالاستقالة هنا فهو قد يخدم صورة النائب بشكل مؤقت، لكن يفوت عليه فرصة الاستمرار في المطالبة بتحسين أوضاع المنطقة والضغط ولو كلاميا على الحكومة للاهتمام بمناطق الظل وخاصة في القرى والأرياف. وبدلا من صناعة صورة النائب البطل الذي يتحدى الحكومة، فإنه يخسر فرصة الاستمرار في التعبير عن مطالب الجهة ويفقد مبررات إعادة انتخابه.

أما المستوى الثاني الذي يتعلق بالاستقالة فيخص القضايا العامة، ويقدم النائب على أنه يختلف مع الحكومة في توجهاتها الكبرى، وبالنتيجة مع الرئيس سعيد، وهو أمر لا يبدو معلنا خاصة أن البعض من النواب يحاجج الحكومة بأنها لا تلتزم بتنفيذ توجهات قيس سعيد مع علمه أن الحكومة جهاز تنفيذي مهمته تحقيق ما يريده الرئيس ويأمر به في الاجتماعات اليومية مع رئيسة الحكومة سارة الزعفراني أو مع الوزراء في ملفات مختلفة، وخاصة في الملف الاجتماعي مثار الانتقادات المقدمة للحكومة.

لا يمكن للنواب لوم الحكومة على توجهات عامة مرتبطة بقناعات الرئيس سعيد ثم القول إن هؤلاء النواب يدعمون مسار 25 يوليو 2021 وأنهم مقتنعون به ويدافعون عنه بوجه المعارضة. هذا تناقض صارخ، فإما أن تدعم التوجهات الكبرى وخيارات الرئيس أو تكون ضدها، لا أن تنتقدها وتختبئ في معارضة قيس سعيد وراء الهجوم على الحكومة.

يبدو أن البعض من النواب ما يزال تحت تأثير صورة البرلمان الذي سبق 25 يوليو 2021، برلمان الاستعراض الكلامي وشيطنة الحكومة ومؤسسات الدولة في النقاشات المعلنة ثم مسايرة التكتلات والتوافقات في ما وراء الستار، وهو أمر غير ممكن واقعيا وسياسيا، ويقدم  هدية للخطابات التي تنتقد دستور 2022 وتجربة 25 يوليو.

أخبار مرتبطة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى