ضجة ترامب وحقيقة «الناتو»
كتب مفتاح شعيب في صحيفة الخليج:
ستمر الضجة التي أحدثتها تصريحات الرئيس الأمريكي السابق دونالد ترامب حول حلف شمال الأطلسي «الناتو» ككل الزوابع التي أثارها منذ أن ظهر على المشهد السياسي العالمي قبل ثماني سنوات. لكن تصريحاته الأخيرة كشفت أن هذا الحلف، الذي تضخم وتمدد، ليس قوة جبارة مطلقة، وإنما يختزن في داخله عوامل تفككه وضعفه.
حين قال ترامب إنه إذا عاد إلى البيت الأبيض فإن الولايات المتحدة لن تدافع عن أعضاء الحلف إذا لم يسددوا ما يكفي للدفاع، وإنه «سيشجع» روسيا على مهاجمة بعضهم، ثارت ثائرة الحلفاء عبر الأطلسي وتوالت بيانات الشجب والاستنكار والاستياء، وكأن التهديد دخل حيز التنفيذ، بينما بينت هذه المواقف الغاضبة أن الحلف ليس متماسكاً بما يكفي، فمنذ نشأته عام 1949 لم يخض حرباً حقيقية، بل كان مجرد ذراع أمريكية استخدمتها في معاركها المختلفة منذ حرب الخليج الأولى عام 1991 إلى التدخل في ليبيا، مروراً بالتدخل بغزواته في البوسنة والهرسك ويوغسلافيا وأفغانستان، وهو ما يعني أن هذا الحلف، الذي يضم أقوى الدول وأغناها، لم يخض حرباً حقيقية تمتحن معدنه وصلابته، وحتى حلف وارسو الذي انهار مع سقوط الاتحاد السوفييتي كان يخشى مواجهته، تماماً كما هو الحال اليوم مع اندلاع الحرب في أوكرانيا، وهي أصعب محنة يواجهها هذا الحلف تحت خطر الانزلاق إلى مواجهة مباشرة مع روسيا، العدو الأول له، ولكن كل قادة «الناتو»، من أكبرهم إلى أصغرهم، كانوا حريصين على ألا يحدث أي صدام مع موسكو لأن العاقبة ستكون مغايرة.
وما من شك في أن هذه الحرب قد فجرت أزمة كبيرة داخل هذا التحالف، فالدول ليست كلها متوافقة على كيفية التصرف إذا حدث المحظور، لأن لكل واحدة مصالح وحسابات تختلف عن حليفتها الأخرى. وربما يكون ترامب على حق في ناحية واحدة، هي أن بعض الدول الصغيرة من بقايا الكتلة الشيوعية، التي انضمت إلى الحلف في العقدين الماضيين من دون أن تكون لها أموال أو جيوش فاعلة، لها ثارات مع روسيا وتتمنى أن يحاربها «الناتو» لغايات في نفوس زعمائها، ولكن دول الحلف الكبرى، مثل الولايات المتحدة وفرنسا وألمانيا، لا تريد حرباً تتعارض مع مصالحها الاستراتيجية، كما أنها أكثر الدول خبرة ومعرفة بالقوة الروسية إذا فرضت عليها الحرب.
«الناتو»، مهما تغنّى به أنصاره، ليس بتلك القوة الموصوفة، من ناحية وحدته وتكامله، فدولة مثل تركيا، وهي ثاني قوة عدداً وعدة في الحلف بعد الولايات المتحدة، لديها علاقات ودية مع موسكو أكثر مما هي مع واشنطن أو أي عاصمة أخرى أطلسية. كما أن الدول الأوروبية الكبرى، باستثناء بريطانيا لعقدة تاريخية، لا ترغب في دخول «الناتو» في حرب كبرى مع دولة بحجم روسيا أو الصين، لأنها ببساطة لن تتحمل أعباءها ونتائجها. وحتى الحروب الجانبية أو الصغرى، لم يعد الحلف قادراً على خوضها، لأن الخصوم سيجدهم في أي مكان، والنتيجة النهائية أن هذا «الناتو» قد أصبح بالفعل «ميتاً دماغياً» كما وصفه يوماً الرئيس الفرنسي إيمانويل ماكرون، وربما يموت فعلاً بعد انتهاء الحرب في أوكرانيا وينعاه ترامب إذا عاد إلى البيت الأبيض.