صندوق النقد يشدّد الخناق على مصر… قفزات بالتضخم والديون

أصاب التقرير الأخير لصندوق النقد الدولي، بعنوان “نموذج الاقتصاد المصري بحاجة إلى مراجعة جذرية” مجتمع المال والأعمال والأسواق بحالة اضطراب عنيفة، جراء مخاوف المستثمرين من شدّة التحذيرات التي استخدمها الصندوق بعنف لأول مرة، مؤكداً في تقريره عدم قدرة الاقتصاد على الصمود في مواجهة معدلات التضخم وشحّ العملة، ومخاطر الدين العالية، وضعف الشفافية والحوكمة.
يتوقع اقتصاديون في مصر أن تدفع تحذيرات الصندوق إلى موجة غلاء حادة في أسعار السلع والخدمات، مدفوعةً بعدم رغبته في إنهاء المراجعة الخامسة للاقتصاد واقترانها بالمراجعة السادسة المقرّرة في نهاية العام، بما يعني أن تمرير القرضَين المرتبطَين بالمرحلتَين سيتأجلان إلى فترة زمنية تفوق المقرّر لها في سبتمبر/ أيلول 2025، إلى شهر فبراير/ شباط 2026، أو لحين اجتماعات مجلس إدارة الصندوق في الربيع القادم 2026، ليتأكد خبراء المراجعة بالصندوق من تنفيذ الحكومة أحد أهم شروطه لتمرير القروض الجديدة، وهو التحرير الكامل لأسعار المحروقات والكهرباء، مع التزامها بعدم الاقتراض أو إصدار أدوات دين خارجي، بعد أن بلغت القروض حداً لا يمكن أن يستوعب الاقتصاد المصري أي زيادة بها.
ويرصد التقرير زيادةً في الدين الخارجي لمصر، تصل إلى 162.7 مليار دولار بنهاية يونيو/ حزيران الماضي، ترتفع إلى 174.1 ملياراً في يونيو 2026، و181.8 ملياراً في منتصف عام 2027، و190.3 ملياراً في 2029 و202 مليار في عام 2030.
تعليقاً على تلك الأرقام والتحذيرات أوضح خبير التمويل والاستثمار، وائل النحاس، أن أحد أهم توابع تقرير صندوق النقد أن الحكومة أصبحت ملزمة بوقف دعم الوقود والكهرباء، بنهاية العام الجاري، وزيادة الدخل من الضرائب خاصة على الوحدات العقارية الجديدة، وإعادة تسعير القائم منها، ودخول مجموعة من السلع الجديدة، كالشاي والسكر وغيرهما تحت شريحة ضريبة المبيعات، وتصفية مشروعات حكومية وعامة، بغض النظر عن قيمة الأصول، ولكن للتخلص من أعبائها المالية وعمالتها، مع عدم السماح للحكومة بالحصول على قروض جديدة تسدّد القروض القديمة، بما يعيد شحّ العملة، التي ستتأثر أيضاً بتراجع عوائد قناة السويس، بسبب الحرب الإسرائيلية على غزة، والحروب التي تشعلها بالمنطقة.
يتوقع النحاس أن تبدأ موجات الغلاء الجديدة مع فترة دخول المدارس والجامعات في سبتمبر المقبل، مستشهداً ببدء زيادة طفيفة في أسعار السلع الغذائية والدخان واللحوم خلال الأسبوعَين الماضيَين، مع التجهيز لزيادة أسعار المحروقات والغاز والمياه في سبتمبر، الذي يشهد عادة نقل الشركات والمورّدين أيّ ضغوط تضخمية على السلع والخدمات إلى الجمهور، الذي تزداد حاجة إلى الشراء في تلك الفترة، والتي تشمل شراء الملابس وتجهيزات المدارس والأطعمة المختلفة.
قال النحاس لـ “العربي الجديد” إن تصرفات الحكومة في السنوات الأخيرة وضعت الاقتصاد أمام مأساة استغلّها صندوق النقد في تقريره حينما أشار إلى الوضع السيّئ الذي امتازت به مصر في المؤشرات الدولية كافّة الخاصة بغياب الشفافية والحوكمة والعدالة القضائية والكفاءة الاقتصادية والرقابة الشعبية وحرية تداول المعلومات، بما يضعف من قدرة مصر على الخروج من عباءة الصندوق.
وأضاف أن الصندوق أصبح وصياً على قراراتها ومعاملاتها الدولية، مع حاجتها المستمرة للحصول على شهادة منه، تمكّنها من الحصول على قروض والسير في سياسة مالية أحادية الجانب، لا تدفع لنمو حقيقي، وإنما تزيد الضغوط على العملة المحلية، التي تتراجع بسبب تزايد الديون الخارجية والمحلية، وارتفاع الواردات مع انخفاض الإنتاج الصناعي والزراعي، واعتماد 60% من الأنشطة الاقتصادية على الإنتاج الريعي والخدمات الهشة كالسياحة، التي تجعل الاقتصاد متأرجحاً بشدة، كلما اندلعت أزمة داخل البلاد أو خارجها.
دعا النحاس إلى ضرورة إسراع الحكومة بوضع هيكلة شاملة لاقتصاد تبتعد عن الاقتصاد الريعي، والعمل على زيادة التصنيع والإنتاج الزراعي، والإسراع في طرح الشركات العامة في الأسواق العالمية، بما يمكّن الحكومة من تحصيل عوائدها بالدولار، لمواجهة الضغوط التي ستترتب على خروج الأموال الساخنة من مصر وتراجع عوائد قناة السويس والقروض الأجنبية، خلال الفترة المقبلة.
يحذر النحاس من عدم امتلاك الحكومة أيّ رؤى تمكّنها من إعادة هيكلة شاملة للاقتصاد، دون انتظار أن يفرض صندوق النقد الدولي شروطه على مصر، مع قدرته على منعها من الحصول على أيّ قروض من الاتحاد الأوروبي والدول الخليجية والداعمة للاقتصاد، لحين تنفيذ الحكومة السياسات التي وافقت على الالتزام بها، ولم تتحقق خلال السنوات الماضية.
يشير خبير التمويل والاستثمار إلى أنّ توجّه الحكومة لبيع شركات عامة بقيمة ثلاثة مليارات دولار دفعة واحدة، ببورصة الأوراق المالية، ليكون وسيلة خروج سريعة من شحّ العملة، لا يمكن الوثوق بتنفيذه في ظل تأثر المستثمرين الأجانب سلباً بمخاوف الصندوق حول الأداء الاقتصادي للدولة، الذين سيخرجون من سوق الدين الحكومي، وسيحجمون عن شراء الأسهم بالشركات المحلية، وستخلق فقاعة كبيرة على العرض من جانب الشركات التي ستُطرح للبيع، لا يمكن للسوق المحلية أن تستوعبها.
يشير خبراء إلى أن الحكومة تعوّل على استمرار الدعم الخليجي للاقتصاد، خشية أن تقع الدولة في فوضى سياسية تهدد المنطقة، مع دعوتها للدولة الداعمة إلى أن تتخلى عن ودائعها مقابل استثمارات، ذات عائد دولاري يعاد استخدامه داخل الاقتصاد المصري، ويرون أنه أمر بلا جدوى في ظل تغيرات جيوسياسية واسعة بالمنطقة، وحاجة تلك الدول إلى التصرف في أموالها بحرية، دون فرض شروط مسبقة من الحكومة.
من جانبه يؤكد الخبير الاقتصادي ورجل الأعمال المصري المقيم في الولايات المتحدة، محمود وهبة، أن الحكومة التي شاركت في صناعة أزمة اقتصادية منذ التعويم الأول للجنيه في أكتوبر/ تشرين الأول 2016، تمتلك وسائل إعلام ومهارات واسعة في إقناع المواطنين بأنهم مصدر الأزمة، وعليهم أن يتحمّلوا توابعها بتقبل زيادة أسعار السلع والخدمات وتخفيض دعم المحروقات والكهرباء، وتبرير لجوئها إلى الاقتراض لاستخدام تلك الأموال في حل المشاكل الاقتصادية.
وأوضح في بيان على صفحاته الخاصة بوسائل التواصل الاجتماعي، أن هذه الأزمات نتجت عن اللجوء إلى حل المشاكل اليومية عبر الاقتراض وسداد القروض بالمزيد منها، دون توظيفها في إقامة مشروعات إنتاجية، بينما الحكومة تعلم أن تلك السياسات ستؤدي حتماً إلى انفجار، يتحمله الجمهور في شكل زيادة دائمة بالأسعار وتراجع بقيمة العملة، ومعدلات النمو والتوظيف.
يحمّل عضو مجلس النواب هاني خضر، الحكومة مسؤولية تفاقم الدين الخارجي، التي دفعت صندوق النقد إلى إصدار تقريره الأخير، بدعوته صراحة بتوقف مصر عن طلب أيّ قروض جديدة، بعد أن وصل الاقتصاد إلى مرحلة لن تمكّنه من سداد التزامات الدائنين، مؤكداً أن موافقة الأغلبية البرلمانية على القروض، لا تعني أنهم يعرفون شيئاً عنها، وإنما تمرّرها التزاماً بمبدأ المسؤولية التضامنية مع الحكومة، ودعماً لما تطلبه الحكومة من قروض وأموال مستهدفة تحسين النمو وموارد الدولة.
وقال خضر لـ “العربي الجديد” إنّ الحكومة ماضية في نفس سياساتها القديمة بدون تغيير، أو تمييز لما ستؤدي إليه تلك السياسات، من مخاطر على زيادة الدين الأجنبي والمحلي، وموجات تضخم قاسية على المواطنين، مبدياً اعتراضه ونواب الأقلية الممثلة لأحزاب المعارضة والمستقلين، على السير في نفس المسار الذي يحمل المواطنين أعباء لا قِبَل لهم بها.