
كتبت ليلى نقولا في صحيفة الميادين.
تدشن صفقة ترامب- فان ديرلاين مساراً جديداً من العلاقة بين ضفتي الأطلسي فقد كشفت عن اختلال ميزان القوى بين الطرفين، وأبرزت قدرة واشنطن على فرض أجندتها عبر أدوات الضغط التجاري.
تشكل صفقة التجارة الموقعة في يوليو 2025 بين الاتحاد الأوروبي والولايات المتحدة الأميركية واحدة من أهم التحولات في العلاقات الاقتصادية عبر الأطلسي منذ عقود. ظهرت هذه الاتفاقية بعد تهديدات أميركية متصاعدة بفرض مزيد من الرسوم الجمركية.
ففي أوائل عام 2025، فرض ترامب رسوماً بنسبة 10% على جميع الواردات، ثم لوّح بفرض رسوم بنسبة 30% على السلع الأوروبية و50% على واردات الصلب والألومنيوم. وأمام خطر كارثي يهدد ملايين الوظائف الأوروبية، لجأ الاتحاد الأوروبي إلى التفاوض على اتفاق إطاري.
ويفرض الاتفاق الذي أُبرم خلال لقاء في اسكتلندا في 28 تموز/يوليو 2025، رسومًا جمركية بنسبة 15% على معظم صادرات الاتحاد الأوروبي إلى الولايات المتحدة، ويمنح في المقابل امتيازات ضخمة للصادرات الأميركية.
ويتضمن الاتفاق ما يلي:
· الإطار الجمركي: ستطبق الولايات المتحدة رسوماً بنسبة 15% على معظم السلع الأوروبية اعتباراً من 1 آب/ أغسطس 2025، مع بعض الإعفاءات للمنتجات الاستراتيجية مثل أجزاء الطائرات وبعض المواد الكيميائية ومعدات أشباه الموصلات.
· الطاقة والاستثمارات: يتعهّد الاتحاد الأوروبي بشراء طاقة أميركية (غاز طبيعي مسال، نفط، وقود نووي) بقيمة 750 مليار دولار لتقليل الاعتماد على الطاقة الروسية على مدى سنوات ثلاث بقيمة 250 مليار دولار سنوياً، إضافة إلى 600 مليار دولار في استثمارات جديدة داخل الولايات المتحدة بحلول 2028.
· المشتريات الدفاعية: تشتري دول الاتحاد الأوروبي كميات ضخمة من المعدات العسكرية الأميركية.
· الوصول إلى الأسواق: أزال الاتحاد الأوروبي الرسوم الجمركية على السلع الصناعية الأميركية، وفتح أسواقه أمام المنتجات الزراعية والصيد البحري الأميركية.
تداعيات هذا الاتفاق:
1- على أوروبا
من المتوقع أن يؤدي النظام الجمركي الجديد إلى انخفاض الناتج المحلي الإجمالي للاتحاد الأوروبي بنسبة تراوح بين 0.2% و0.8%، مع تعرض ألمانيا وإيطاليا وإيرلندا لضربات اقتصادية أقوى من باقي الدول لأنها البلدان الأوروبية التي تصدّر الكميات الأكبر للولايات المتحدة.
وبالرغم من محاولة المستشار الألماني إنقاذ قطاع السيارات الألماني، فإن الاتفاق فعلياً سيضر بالقطاع الذي قد يضطر إلى نقل خطوط إنتاج إلى الولايات المتحدة. كما يتوقع أن يخسر قطاع النبيذ الإيطالي نحو 371 مليون دولار نتيجة ارتفاع أسعار النبيذ في السوق الأميركي. في المقابل، ستستفيد قطاعات مثل صناعة الطائات وبعض المواد الكيميائية من الإعفاءات الجمركية. ومع ذلك، سوف ترتفع الرسوم على معظم السلع الأوروبية إلى 17.5% في المتوسط، ما يقلل من قدرتها التنافسية.
هذا في الاقتصاد، أما في السياسة والاستراتيجيا فيمكن ملاحظة ما يلي:
لا شكّ في أن الاتفاقية تبدو بشكل واضح “غير متكافئة” و”غير عادلة” للأوروبيين، ومفيدة للأميركيين بشكل أكبر. ولقد أظهرت ضعف قدرة الاتحاد على التفاوض الموحد، فالأولويات المتباينة بين الدول الأعضاء، مثل اهتمام ألمانيا بصناعة السيارات وإيرلندا بالأدوية، أضعفت الموقف التفاوضي الأوروبي.
أما الاستقلالية الاستراتيجية التي كان الاتحاد الأوروبي قد أعلن عنها في وقت سابق، فباتت من الماضي. كان الاتحاد الأوروبي قد اقرّ “خطة التصنيع العسكري الأوروبي المشترك” قبل حوالى شهرين بموازنة 500 مليار يورو. من الصعب على الأوروبيين الاستمرار في تلك الخطة بعد هذا الاتفاق، لأن الاتفاق مع الأميركيين يفرض على دول الاتحاد شراء أسلحة أميركية بقيمة مئات المليارات من الدولارات، ما يعني عمليًا أن الأموال التي رصدها الأوروبيون لتمويل السيادة الدفاعية الأوروبية ستذهب لشراء المعدات العسكرية الأميركية.
2- للولايات المتحدة الأميركية
على الجانب الأميركي، تبدو الصفقة انتصاراً كبيراً لدونالد ترامب الذي لم يستطع – لغاية الآن- أن يحقق ما وعد به خلال حملته الانتخابية من إنهاء الحروب وتخفيض الأسعار. بعد توقيع الصفقة، يستطيع ترامب أن يخاطب جمهوره، معلناً انتصاراً على الاتحاد الأوروبي، ونجاح سياسته باستخدام الرسوم الجمركية لا فقط كأداة اقتصادية، بل كوسيلة ضغط جيوسياسية.
اقتصادياً، هذا الاتفاق سيسمح للولايات المتحدة بالحصول على 90 مليار دولار من عائدات الرسوم الجمركية بحسب أرقام التجارة مع الاتحاد الأوروبي العام الماضي، إضافة إلى مئات المليارات من الدولارات من الاستثمارات التي سوف تتدفق إلى الاقتصاد الأميركي، تضاف إلى ما استطاع ترامب تحصيله من استثمارات بتريليونات الدولارات خلال زيارته الخليجية.
3- المؤسسات العالمية
لا شكّ في أن سياسة “أميركا أولاً” والضغط الاقتصادي لإخضاع الدول الحليفة ودفعها لتوقيع اتفاقيات غير متكافئة، كما حصل مع اليابان والاتحاد الأوروبي، تتجاوز المؤسسات المتعددة الأطراف مثل منظمة التجارة العالمية، وتضعف النظام التجاري العالمي القائم على القواعد السابقة. وكما وصف وزير التجارة الفرنسي، فإن “الولايات المتحدة فرضت قانون الغاب الجديد” على النظام التجاري الدولي.
في النتيجة، تدشن صفقة ترامب- فان ديرلاين مساراً جديداً من العلاقة بين ضفتي الأطلسي فقد كشفت عن اختلال ميزان القوى بين الطرفين، وأبرزت قدرة الولايات المتحدة على فرض أجندتها الاقتصادية والسياسية عبر أدوات الضغط التجاري.
وبالرغم من أنها أتت كإنقاذ مؤقت للاتحاد الأوروبي من حرب تجارية هدد بها ترامب وكان مستعداً لخوضها، لكنها سوف تمثّل تحوّلاً استراتيجياً طويل الأمد، وسوف تدفع الأوروبيين إلى البحث عن تنويع الشراكات وإعادة تقييم سياساته الصناعية والدفاعية، وربما صياغة مقاربة جديدة للاستقلالية الاقتصادية والسياسية.