أبرزرأي

صفر كوفيد… صفر استغباء

كتب أرنست خوري في ثحيفة “العربي الجديد”: لايُفترض أن تتأخّر السلطات الصينية عن اتهام المحتجين الذين تظاهروا في نهاية الأسبوع الماضي ضد سياسة “صفر كوفيد” في ست مدن كبرى على الأقل، بأنهم أدوات بيد قوى أجنبية هدفها التآمر على الصين وهدم منجزات حزبها الحاكم. وصفة التآمر الأجنبي تليق بمعارضي سياسة “صفر كوفيد” بما أنها أكثر سياسة صينية “وطنية” في عهد ما بعد كوفيد. وُلدت “السياسة” تلك قبل أقل من ثلاث سنوات كرد فعل على الغضب العالمي من حقيقة أن وباء كورونا خرج من الصين باستخفاف من حكامها إن لم يكن بتواطؤ منهم. تستّر هؤلاء على الفيروس ومنعوا نشر أي معلومة عنه ولم يبلغوا منظمة الصحة العالمية بأن العدوى تنتقل بين البشر إلا في أواخر يناير/ كانون الثاني (أي بعد نحو شهرين من انتشاره في البر الصيني)، ولم يفرضوا منعاً للسفر على مواطنيهم إلى الخارج أشهراً كاملة.

انتشر الفيروس في العالم، وظهر التردُّد بشكل فاقع في أوروبا وأميركا بشأن كيفية مواجهة المرض الغريب، فارتأت الصين أن تعلّم الغرب كيف يجدر أن يكون التعاطي مع مثل هذه الظروف: خطة راديكالية لا سياسة فيها ولا مشورة ولا عِلم، نسمّيها “سياسة صفر كوفيد”، تكون سهلة وبسيطة، شأنها شأن كل ما هو جذري وقمعي ولا يستند إلا على حسابات سلطوية لا تأخذ في الاعتبار مدى زمنياً أو حاجات سكان وحرياتهم: فرض حظر مفاجئ وطويل وعزل للأقاليم والمناطق بعضها عن بعض لمجرّد اكتشاف إصابة واحدة بكوفيد. فرض اختبار “بي سي آر” جماعي على كل سكان المنطقة أو المدينة أو الإقليم “المشتبه فيه” يومياً.

إغلاق كل المرافق (إلا المصانع غالباً) في المنطقة المستهدفة بشكل يحوّل المساكن إلى سجون، وهو ما أنتج كوارث بالجملة خلال السنوات الثلاث الماضية. آخر فاجعة تتحمّل “صفر كوفيد” مسؤوليتها أدّت إلى تفجّر احتجاجات نهاية الأسبوع، وهي حريق أورومتشي عاصمة إقليم شينجيانغ، يوم الخميس الماضي، وقد أودى بحياة عشرة أشخاص، وتفيد رواية السكان بأن السبب الأساسي الذي أعاق وصول فرق الإنقاذ وفرار قاطني المبنى هو إجراءات العزل والحجر المطبقة منذ أكثر من ثلاثة أشهر هناك.

إذاً وُلدت سياسة صفر كوفيد من رحم النكاية بالغرب، وتم تقديمها كفخر الصناعة الصحية الصينية. اختُرعت اللقاحات، وانهالت النصائح الطبية بعدم جدوى “صفر كوفيد”، ولكن لا شيء يمكنه خلخلة قرارات رئيس مثل شي جين بينغ يعيش في حلم مزاحمة ماو تسي تونغ على صدارة صنع التاريخ. لم تستطع الصين تحقيق مناعة جماعية كافية بفضل اللقاحات، ذلك أن سينوفاك وسينوفارم، أشهر طعمين صينيين، هما الأقل فعالية من بين جميع نظرائهما في عائلة لقاحات كورونا. أكثر من ذلك، فإنّ نسبة المطعّمين من المسنّين الصينيين لا تزال متدنّية للغاية. إذاً لا مناعة جماعية بفعل اللقاح، ولا “مناعة قطيع” بفعل انتشار العدوى، بل مواصلة سياسة الإغلاق والمنع والحجر والفحوصات الجماعية اليومية والسجن والغرامات في مقابل فشل حتمي في وقف تمدد الفيروس.

منذ ثلاث سنوات، تعرض السلطة الصينية على مواطنيها معادلة صفرية: نأخذ حريتكم وحركتكم وطموحاتكم ولا نعطيكم إلا وعداً بإنهاء الفيروس. في المقابل، مئات ملايين الصينيين يردّون بعرض آخر: نريد أن نكون كبقية شعوب العالم وأن نتحمل مسؤولية قراراتنا كبقية شعوب العالم أيضاً. بعد ثلاث سنوات من تحويلنا إلى فئران تجارب لسياسة صفر كوفيد، نريد استئناف حياتنا كبشر لا كفئران، فلنمرض ونشفى ويموت منا من يموت، وهكذا. رفض السلطة عرض شعبها يتخذ في أماكن كالصين أشكالاً بائسة. حلّ موعد مونديال قطر مثلاً، فبدأت القنوات التلفزيونية الصينية تحذف المشاهد التي تُظهر جماهير مكتظة في المدرجات من دون كمّامات. انهالت فيديوهات الاحتجاجات في المدن الصينية الرئيسية فحذفتها السلطات عن الإنترنت في اليوم التالي. انتشرت شعارات “شي جين بينغ استقل” في شنغهاي ووهان فشُطبت أيضاً عن الفضاء الافتراضي بعدما شاهدها الملايين.

هل يحقّ للصينيين أن يتوقعوا من حكّامهم أن يخترعوا يوماً ما سياسة “صفر استغباء”؟

أخبار مرتبطة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى