صعود اليسار أقل الشرور الفرنسية للجزائر

كتب صابر بليدي, في “العرب”:
للجزائر أكبر جالية مغاربية وأفريقية في فرنسا والتضييق عليها هو مقدمة لعبء ثقيل سينضاف إلى متاعبها المزمنة، لذلك جرى حشد وتعبئة الرأي العام الجزائري في فرنسا للمساهمة في حملة إسقاط اليمين.
من موسكو إلى تل أبيب مرورا بعدد من العواصم جاءت انتكاسة اليمين الفرنسي في الانتخابات التشريعية صادمة لدوائر صنع القرار، التي كانت ترى فيها عكازا جديدا تستند إليه في تحقيق أهدافها وحساباتها الإقليمية والدولية، لكن صعود اليسار لا يعني بالضرورة انتعاشة حظوظ المتضررين من موجة اليمين، ولا يعني أن علاقاتهم ستكون مثالية في المستقبل مع فرنسا.
وجهت اللجنة المنظمة للألعاب الأولمبية المقررة في فرنسا بعد أيام قليلة، دعوة للرئيس الجزائري عبدالمجيد تبون، لحضور حفل الافتتاح، وبعض النظر عن طابعها القيمي الرياضي، فإنه لا يمكن أن تقرأ بمعزل عن الحسابات السياسية بين البلدين، لاسيما وأن الرئيس الجزائري تنتظره زيارة مبرمجة إلى باريس بعد أشهر قليلة، وهو الحدث الذي مهّد له السفير الفرنسي في الجزائر ستيفان ماروتيه بتصريحات متفائلة حول مستقبل علاقات البلدين، خاصة بعد ما أسماه بـ“سقوط مارد اليمين المتطرف”.
السفير الفرنسي الذي يعمل على ترميم الشروخ التي برزت في علاقات بلاده مع الجزائريين استغل فرصة العيد الوطني الفرنسي لإطلاق إشارات إيجابية والتعبير عن استعداد بلاده لإعطاء دفعة قوية للعلاقات المتعثرة خاصة في السنوات الأخيرة، لكن ذلك لا يعني أن السجاد الأحمر سيكون جاهزا لفرشه أمام صناع القرار، بدليل أنه اعترف في نفس التصريح بحجم المعوقات والعراقيل، وبالوضع السياسي المعقد في بلاده، في ضوء الحصيلة النهائية لنتائج الانتخابات التشريعية.
فرنسا في ظل هذا الوضع تتواجد على عتبة منعطف خطير يهدد بتماسك المجتمع الفرنسي وينهي التوافق الموروث على دورها الريادي في المنطقة
شيء طبيعي أن تهتم النخب السياسية والإعلامية الجزائرية بتطورات الوضع السياسي في فرنسا، فالمصالح المشتركة بين البلدين والملفات المتراكمة تضغط في اتجاه الاهتمام بما أفرزه صندوق الاقتراع الفرنسي، وما عدا ذلك هو مسعى فاشل للتغطية على تأثير وتداعيات انتكاسة اليمين، ومحاولة الظهور في ثوب غير المعنيّ بالأمر هو بكاء صامت على رهان قلب التوازنات الإقليمية، بعدما قلب الناخب الفرنسي الطاولة في الجولة الثانية من الانتخابات.
الجزائر التي تنفست الصعداء من مغامرة اللعبة الديمقراطية الفرنسية، لا يعني أنها اطمأنت تماما لصعود اليسار، فهو على قواسمه المشتركة في عدد من الملفات الإقليمية والقضايا التي تدعمها الجزائر، لا يتواءم معها تماما في مختلف التفاصيل التي أعاقت علاقات الطرفين في الحقب التي حكمها اليسار الفرنسي.
اليمين الفرنسي ظل جريئا وصريحا في علاقاته مع الدول المغاربية، وخاصة الجزائر، من خلال دعوته لمراجعة العديد من الملفات خاصة تلك التي تدعم السلط الحاكمة، وأفصح عن خططه الاقتصادية والاجتماعية والتعاطي مع الهجرة والمهاجرين، وذهب إلى حد التهديد بحظر شغل مناصب مرموقة في الدولة الفرنسية، على مزدوجي الجنسية (الفرنسية – الجزائرية )، وهذا كاف لإثارة مخاوف الجزائريين، سواء بالنسبة إلى مصالح النخبة الحاكمة أو النسيج الاجتماعي وكتلة المهاجرين.
للجزائر أكبر جالية مغاربية وأفريقية في فرنسا، والتضييق عليها هو مقدمة لعبء ثقيل سينضاف إلى متاعبها المزمنة، ولذلك جرى حشد وتعبئة الرأي العام الجزائري في فرنسا للمساهمة في حملة إسقاط اليمين، وجاء فوز خمسة نواب من مزدوجي الجنسية ينتمون الى تحالف اليسار، ليبرز سعي الجزائريين للحفاظ على وجودهم ومصالحهم في فرنسا، وتغليب كفة اليسار فهو أقل الشرور بالنسبة إليهم.
الجزائر التي تنفست الصعداء من مغامرة اللعبة الديمقراطية الفرنسية، لا يعني أنها اطمأنت تماما لصعود اليسار، فهو لا يتواءم معها تماما في مختلف التفاصيل التي أعاقت علاقات الطرفين في الحقب التي حكمها اليسار الفرنسي
اليمين المتطرف لم يحدث أن حكم فرنسا، للحديث عن تجربته مع الجزائر، ولو أن مؤشراته أنذرت بتهاو غير مسبوق إذا اعتلى قصر الكيدروسيه، وحتى العلاقة اليسار مع لم تكن مثالية، قياسا بأدبياته المتعلقة بالاندماج الاجتماعي والديني، فهو متشدد تجاه التمدد الإسلامي في فرنسا، ومنفتح على كل ما يزعج الجالية المسلمة، ولم يسجل إلا تقاربا واستقرارا ظرفيا مع اليمين الديغولي.
ومع هذا تكون العلاقات الجزائرية – الفرنسية قد أفلتت من مطب غير معلوم النهايات، ففي اليسار نفسه نخب فرنسية على قلتها تؤمن بضرورة البناء الندّي وتسوية ملف التاريخ والذاكرة المشتركة، ومستعد لتقديم التنازلات اللازمة من أجل طي صفحة الحقبة الاستعمارية، والتوجه مباشرة إلى المستقبل، في إطار جغرافيا متوسطية تتلاقح فيها الحضارات والمشارب ويجمعها المستقبل.
فرنسا في ظل هذا الوضع تتواجد على عتبة منعطف خطير يهدد بتماسك المجتمع الفرنسي وينهي التوافق الموروث على دورها الريادي في المنطقة، فموجة اليمين المتصاعدة في الغرب والولايات المتحدة تتطلع إلى نتائج الانتخابات في واشنطن لتعويض انتكاسة فرنسا، والانتكاسة في حد ذاتها لا تعني نهاية الخطر على شركاء باريس في المنطقة، لأن عدم وجوده في الكيدروسيه يجعل منه قوة تعطيل حقيقية داخل البرلمان، ستعيق اليسار على مد جذوره التقليدية وإعادة فرنسا إلى مكانها الطبيعي بعد الزلزال الجيوإستراتيجي الذي ضرب منطقة الساحل وعموم أفريقيا.
“فرنسا في حاجة إلى الجزائر”، كما صرح السفير الفرنسي في الجزائر، وامتثالا لآداب الدبلوماسية تحاشى إكمال الجملة بـ“والجزائر في حاجة إلى فرنسا”، فهي على الأقل تمثل آخر القلاع والشراكات التي بإمكانها مساعدة باريس على استعادة أمجادها، وفي المقابل تبقى باريس هي نافذة الجزائر إلى الاتحاد الأوروبي وإلى الغرب عموما، خاصة في ظل الفتور الذي يخيم على العلاقات التاريخية للجزائر مع شركائها التقليديين في الشرق (روسيا والصين)، وهذه معادلة يمكن الاشتراك فيها بين اليسار والجزائر، بدلا من دوامة عقيدة التفكيك التي يتبناها اليمينيون.