صخب الترتيبات الأمنية بين مصر وإسرائيل
كتب محمد أبو الفضل في صحيفة العرب.
غموض الرؤية النهائية لدى نتنياهو يجعله يلجأ إلى جس النبض بطرح أفكار على شكل معلومات لمعرفة المدى الذي يمكن أن يذهب إليه لأنه يعلم حجم القلق داخل إسرائيل بعد فاجعة طوفان الأقصى.
يتعمد الكثير من وسائل الإعلام وطلائع الخبراء في إسرائيل الترويج لوجود تعاون وتنسيق أمني مع مصر في كل كبيرة وصغيرة تتعلق بمحور صلاح الدين (فيلادلفيا) ومعبر رفح، وأن ما قام به الجيش الإسرائيلي وما يمكن أن يقوم به من إجراءات في جنوب قطاع غزة حصل على موافقات بشأنها من القاهرة، ولم يعبأ من سوّقوا لذلك أن يراجعوا تقييمهم السابق بعد أن تم النفي على لسان مصادر مسؤولة في مصر.
تكررت هذه المسألة في حالات عدة، أبرزها ما تردد عقب السيطرة على معبر رفح من أن مصر ستقوم بالتنسيق مع إسرائيل لإدخال المساعدات إلى غزة، مع أنّ ما قامت به قوات الاحتلال من عمليات عسكرية على طول وعرض محور فيلادلفيا بدءا من السادس من مايو الماضي تم رفضه من القاهرة التي كذبت أكثر من مرة ما تردد إزاء عملية التعاون الأمني، مؤكدة عدم وجوده منذ ذلك التاريخ.
تتردد بعض الاجتهادات ويتم تسريب معلومات على ألسنة إسرائيلية مختلفة، وتتداخل فيها الحقائق مع الشائعات عن قصد، لأن الهدف تخفيف حدة الضغوط التي تتعرض لها إسرائيل، فربما يوفر نشر رواية التنسيق مع مصر غطاء أمنيا، ويمنحها مشروعية سياسية، ويشير إلى أن خطواتها تحافظ على اتفاقية السلام مع مصر ولن تتسبب في حدوث ضرر بها، لاسيما أن هناك شريحة من الفلسطينيين تطرب لخطاب تل أبيب حول التعاون مع القاهرة وتجد في صمتها أو ردها بالنفي المجرد بلا تقديم معلومات ذريعة لتقبل السردية الإسرائيلية.
عرف المتابعون أن التصريحات التي تخرج من القاهرة منسوبة إلى مصدر رفيع المستوى وأنها تنطوي على إجابة رسمية لما يتردد حول بعض الملفات المتعلقة بالحرب على غزة، بدءا ممّا يجري على طاولة المفاوضات وصولا إلى بعض الإشكاليات الأمنية التي تثار من وقت إلى آخر، وبالتالي تحمل وجهة نظر الدولة المصرية.
بينما غالب ما تبثه وسائل الإعلام في إسرائيل لا ينسب إلى مصادر رسمية، ويأتي عبر مداخلات مع بعض الفضائيات أو مقالات لمحللين في مواقع وصحف عبرية.
تكتسب الردود المصرية أهمية كبيرة لأنها تنشر في وسائل إعلام رسمية أو شبه رسمية محلية وبصياغة واحدة، والمحتوى الذي تتضمنه لا يتغير، وما يؤدي إلى التعامل معه بمصداقية عالية أن الجهة التي تصدره معروف عنها الصرامة، وعندما تدلي بتصريح حول أحد الملفات تعني مضمونه تماما، وما قلل من تأثير الصخب الحاصل بشأن الترتيبات في مدينة رفح بجنوب غزة أنه يحدث في أوقات تريد فيها إسرائيل أن تبدو قريبة من مصر وكل الإجراءات الأمنية تتم بالتفاهم معها.
اعتمدت حكومة إسرائيل كثيرا على التكرار لتثبيت روايتها حيال التعاون الأمني مع القاهرة، حيث تقوم بتكثيف المعلومات التي يتم تسريبها والعزف عليها بقوة في وسائل إعلامها، وتمت الإشارة أحيانا إلى تفاهمات مشتركة لإدارة معبر رفح، والاتفاق النهائي على ترتيبات تقنية لسد جميع المنافذ أمام تهريب الأسلحة عبر الأنفاق، وقبلها راجت رواية حول نشر قوات عربية، وأخرى تتعلق بتولي مصر الإشراف على غزة.
قد يكون الهدف التظاهر بأن حكومة بنيامين نتنياهو على تناغم مع مصر، وأن التعاون الأمني معها لم يتقلص في خضم الحرب الضارية، وهي رسالة تخصم من رصيد القاهرة العربي، وتقلب دعمها للقضية الفلسطينية إلى دعم لتصورات إسرائيل التي تستفيد من عدم مبادلتها التسريبات المزيفة بأخرى حقيقية عبر وسائل الإعلام المصرية التي يمكنها أن تحرج القيادات الأمينة في إسرائيل لو لجأت إلى الطريقة ذاتها، وكشفت عن جزء ممّا يجري في المفاوضات بين حركة حماس وإسرائيل.
الواضح أن الوساطة التي تقوم بها القاهرة والحرص على نجاحها وضعت حدودا لما يتم الرد عليه وما يمكن تجاهله أو فرض قيود عليه، لأن الحكومة الإسرائيلية توظف ما يتم تسريبه من خلال وسائل الإعلام سياسيا، سواء أكان صحيحا أم مزيفا، بما يخدم أجندة نتنياهو، ولأن إشكاليات اليوم التالي لانتهاء الحرب في غزة تنصبّ على الجوانب الأمنية، من الطبيعي أن تكون البيانات التي تخرج من طاقمه والقريبين منه تدور حول محتوى يحتل أولوية كبيرة في إسرائيل، وقوى إقليمية ودولية، من بينها مصر.
كما أن غموض الرؤية النهائية لدى نتنياهو يجعله يلجأ إلى جس النبض بطرح أفكار على شكل معلومات لمعرفة المدى الذي يمكن أن يذهب إليه في النواحي الأمنية، لأنه يعلم حجم القلق داخل إسرائيل بعد فاجعة طوفان الأقصى وما أحدثته من تفكك في مستوى الثقة في الأجهزة الاستخباراتية، وهو في عدد كبير من تحركاته تجاه غزة يريد أن يشير إلى متانة العلاقات مع القاهرة، إلى الدرجة التي يصورها على أنها شريك أمني معه، بعد أن واجهت توجهاته للتحكم في القطاع مباشرة تحديات كبيرة.
من مصلحة مصر أن تكون الأوضاع الأمنية مستقرة في غزة، لكن ليس من مصلحتها أن تديره أو تتولى مسؤوليته الأمنية بمفردها أو عبر التشارك مع غيرها، الأمر الذي يسعى نتنياهو إلى ترسيخه في الوجدان العام داخل إسرائيل بالصورة التي تنفي حدوث خلاف مع القاهرة، ويتجاهل أن حل جزء كبير من القضايا الأمنية يتمحور حول تسوية القضية الفلسطينية على أساس الشرعية الدولية التي يريد نتنياهو القفز فوقها من خلال التركيز على تفاصيل أمنية مشتركة مع مصر تصب في صالحه وصالح أغراضه السياسية، ومن ثم التشكيك في التصورات المصرية الرامية إلى البحث عن حل حقيقي.
احتل الصخب الأمني مع مصر مرتبة متقدمة تجاوزت أولويته مع الجانب الفلسطيني، الذي من حقه القبول بالصيغة المناسبة ورفض ما يطرحه نتنياهو وحكومته طالما يتعارض مع المصلحة الوطنية، وأغرقت وسائل الإعلام في إسرائيل جمهورها في تفاصيل واجتهادات وتكهنات وتخمينات حول التعاون والتنسيق مع القاهرة أكثر من غيرها، لأنها تريد حرف الأنظار عن القضايا الرئيسية مع الجانب الفلسطيني، وتقديم قواه على أنها غير مسؤولة ويصعب الوثوق بقياداتها.
وساوى نتنياهو بين فتح وحماس عسكريا، ولعل عبارته الشهيرة “فتحستان وحماسستان” لخصت نظرته إلى القوى الفلسطينية، بقطع النظر عن الأيديولوجيا التي يتبناها كل منهما، ولذلك يهرب إلى الأمام بوضع جزء معتبر من هواجسه الأمنية في السلة المصرية، التي لا أحد يعلم كم تستطيع أن تستوعب من مخاوف نتنياهو، وما هو المقابل الذي تقدمه إسرائيل في سبيل حل القضية الفلسطينية، فهواجس مصر الأمنية تمكنت من حلها بالقسوة أو التراضي مع حماس من قبل.