شنغهاي 2025: أكبر من قمة وأصغر من نظام عالمي جديد

كتب مسار عبد المحسن راضي, في العرب:
أحلام الجنوب العالمي التي تمثلها الصين بعيدة، فهذا الجنوب يفتقد إلى البنى التحتية الرقمية والتكنولوجية والقدرة على توظيف موارده بسرعة كافية في أي صراع مستقبلي محتمل.
المؤكد أن روح الإمبراطور الصيني شين نونغ قد حضرت في الحادي والثلاثين من آب – أغسطس والأول من أيلول – سبتمبر، ككوب من الشاي في قمة شنغهاي.
الرئيس الصيني شي جينبينغ كان قد استخدم مقاربة البيرة والشاي عام 2014 عند حديثه عن العلاقات الأوروبية – الصينية في بلجيكا.
إمبراطور الشاي نونغ استخدم بدوره مقاربة الشاي ورجاحة التفكير: “عندما يشرب الناس الشاي فإنهم يفكرون بسرعة وينامون أقل، متمتعين بعقولٍ صافية ورؤية واضحة.” مواطنه الرئيس جينبينغ استخدم الشاي كذلك كتجسيد لمفهوم السلام، في شربه الشاي مع رئيس كوريا الشمالية كيم جونغ أون بعد جولة من التصعيد النووي الإعلامي ضد كوريا الجنوبية في يوليو 2018. وشبه الجزيرة الكورية لديها تقاليد عريقة أيضا مع الشاي.
الآن، لنستبدل النكهة التاريخية للشاي بأخرى سياسية. ما رأيكم؟
يوري أوشاكوف، مساعد الكرملين و”الطبّاخ” الرمزي في الآونة الأخيرة لمعنى جولات الرئيس فلاديمير بوتين الخارجية، وصف في الحادي والثلاثين من آب – أغسطس زيارة رئيسه إلى الصين بأنها “طويلة في مدتها ونادرة الحدوث”، لأنها ستستغرق أربعة أيام. وفي الثاني من أيلول – سبتمبر، قام الرئيس بوتين مع نظيره جينبينغ بمناقشة “العديد من القضايا المهمة خلال تناول كوب من الشاي” في بكين.
◄ الصين لا تستطيع سوى لعب دور “السيد فيتو” لنصرته أمميا، ودعوة المتضررين من النظام العالمي إلى شرب كوب من الشاي، والنظر إلى زهرة اللوتس التي لا تعرف الطريق إلى طاولاتهم
موسكو، كما يبدو، أيقنت بأن إبريق قمة ألاسكا الذي جمع بين الرئيس الأميركي دونالد ترامب ونظيره بوتين لم يعد صالحا لغلي اتفاقية سلام في أوكرانيا، رغم أن مبعوثه ستيف ويتكوف قد ملأ كوب الإعلام في السادس والعشرين من آب – أغسطس بأخبار عن نهاية متوقعة للصراعات في أوكرانيا والشرق الأوسط قبل نهاية العام.
الرئيس بوتين فضّل المزيد من الثقل الأوراسي، على اعتبار أن الكثير من القادة المشاركين ينتمون إلى المجال التقليدي الحيوي لروسيا. قمة شنغهاي، التي سيلتقي فيها بوتين بعشرة من الرؤساء بشكل ثنائي مع احتمال أن يلتقي بعدد أكبر، هي نعش محترم لدفن قمة ألاسكا بدون ضجيج إعلامي. وزير الخارجية الروسي سيرغي لافروف جهّز المسامير في وقت سابق في لقائه مع إحدى القنوات الأميركية.
الهند، التي صفعها الرئيس ترامب بتعريفة جمركية معتبرة، وجدت في حضور رئيسها ناريندرا مودي فرصة لبيان “الاستقلالية الجيوسياسية.” مودي طار بعد نهاية أعمال القمة إلى اليابان. وهذه هي المرة الأولى التي يزور فيها الرئيس الهندي الصين بعد عام 2020، عقب نزاعات حدودية في جبال الهيمالايا. مودي جرّب بدوره في أبريل 2018 شرب الشاي مع نظيره جينبينغ، وجرّبا أنواعا مختلفة من الشاي المحلي. وربما نستطيع القول إنهما تذوقا طعم عدة حلول في نفس الكوب الذي تكسّر على مرتفعات الهيمالايا.
ما رأيكم لو أضفنا الآن زهرة اللوتس إلى هذه الحفلة من الشاي السياسي؟
بكين تحاول دائما إقناع واشنطن بأن النظام العالمي يحتاج إلى الحقن بالمزيد من القوى اللاأوروبية، تلك المهجورة من قبل التصميم الأساسي لتوازن القوى العالمي. ذكرتُ ذلك في مقال سابق: “نتائج زيارة بلينكن لبكين: أوروبات جديدة ونظام عالمي قديم”.
زهرة اللوتس التي توسطت طاولة اجتماع الرئيس جينبينغ مع وزير الخارجية الأميركي السابق أنتوني بلينكن في بكين منتصف عام 2023، كانت محاولة لإقناع واشنطن بأن العاصمتين لهما حصة الأسد في العالم باسم السلام، بدون نسخة جديدة من الحرب الباردة.
في نوفمبر 2022، كان الرئيس جينبينغ قد قام بمحاولة أولى مع الرئيس الأميركي السابق جو بايدن، عندما جمعتهما بالي الإندونيسية. النتيجة كانت إطلاق صفة “الدكتاتور” على الرئيس جينبينغ من قبل بايدن. وهكذا، ضاعت فرصة عالم مستقر؛ أي نزاعات محدودة ومسيطر عليها، أو السلام كما ندعوه دائما.
الرئيس الصيني كرر في قمة شنغهاي 2025 نفس الموقف، لكن على أسطوانة كلمات مختلفة مع أنطونيو غوتيريش، الأمين العام للأمم المتحدة. أيضا، قادة الدول الست والعشرين، قسم كبير منهم سيبقى حتى الثالث من سبتمبر، لحضور احتفالية الذكرى الثمانين لانتصار الصين على الجيش الياباني في الحرب العالمية الثانية. إنها فرصة لاستنبات “لوتس” سياسية على طاولة الحوار بين واشنطن وبكين، أو لشرب كوب من الشاي.
◄ قمة شنغهاي، التي سيلتقي فيها بوتين بعشرة من الرؤساء بشكل ثنائي مع احتمال أن يلتقي بعدد أكبر، هي نعش محترم لدفن قمة ألاسكا بدون ضجيج إعلامي
الرئيس جينبينغ وعقيلته كانا قد شربا الشاي مع تيريزا ماي، رئيسة الحكومة البريطانية حينها، وزوجها في فبراير 2018. وربما إذا قد تجتمع العائلتان الرئاسيتان الصينية والأميركية في حفلة شاي جيوسياسية على متن باخرة تعبر مضيق تايوان. كل شيء في السياسة ممكن.
ولكن، ماذا تبقى للقمة بعد أن امتلأت المعدة بالشاي وسيطرت رائحة اللوتس على أنوفنا؟
لا تفكر بكين مطلقا في نظام عالمي جديد. عالم السياسة الأميركي روبرت كيوهان قال “إن كلفة إنشاء المنظمات الدولية أكبر من كلفة المحافظة عليها.” الصين تمرّست على النظام العالمي، وحتى في الأمم المتحدة تشغل العديد من لجانه، هذا إذا تناسينا حق الفيتو. وربما لهذا باتت الولايات المتحدة لا تطيق الأمم المتحدة. هي تريد الاعتراف بحصتها بشكل شرعي، بدون المرور في المضائق الأيديولوجية، كالدول الديمقراطية والدول الاستبدادية، أو ثنائية الليبرالي والشيوعي، إلخ.
الولايات المتحدة في عهد الرئيس ترامب تقوم بما كانت تقوم به منذ خمسينات القرن الماضي. هانز جي مورغنثاو قال عن ذلك “تفوق العسكريين في إدارة الشؤون الخارجية، ولاسيما في الولايات المتحدة، كان في النهاية ثمرة فشل السلطات المدنية في تأمين القيادة الشاملة في حقل السياسة الخارجية”.
السلام عبر القوة هو العنوان الأميركي الجديد لسياسة أميركية قديمة. إسرائيل وتايوان قذائف قديمة عملت على الإحداثيات الجيوسياسية للحرب الباردة. طبعا، هي ما زالت تعيد تدوير الأولى. أما أوكرانيا والهند فمجرد نسخة أحدث. في القديم عسكر، وفي الجديد تعريفات جمركية وعسكر.
الولايات المتحدة تحتاج الوقت الآن لتوطين صناعة أشباه الموصلات، خاصة تلك التي تحتاجها التكنولوجيا الفائقة المدنية والعسكرية. كذلك، وبسبب أزماتها المالية، تُسرع الخطى لإصدار عملات رقمية مستقرة تستطيع أن تعينها في منع انفجارها بالديون الخارجية، وأن تلعب دور البديل الممتاز للدولار.
أحلام الجنوب العالمي التي تمثلها الصين بعيدة، فهذا الجنوب يفتقد إلى البنى التحتية الرقمية والتكنولوجية، والقدرة على توظيف موارده بسرعة كافية في أي صراع مستقبلي محتمل. الصين لا تستطيع سوى لعب دور “السيد فيتو” لنصرته أمميا، ودعوة المتضررين من النظام العالمي إلى شرب كوب من الشاي، والنظر إلى زهرة اللوتس التي لا تعرف الطريق إلى طاولاتهم.




