شعارات جونسون وهانت حول “بريكست” دليل على فشله
كتب شون أوغرايدي ل”اندبندنت عربية” المقال التالي:
ربما لأن عمله ارتبط بشكل وثيق بهيئة خدمة الصحة الوطنية لزمن طويل، فإن لدى وزير المالية جيريمي هانت شيء من خاصية طبيب العائلة المتعاطف.
يعتبر الوزير هانت أحد الوزراء الذين خدموا لأطول فترة كوزير للصحة في المملكة المتحدة، وكان يعشق عمله إلى درجة أنه رفض الانتقال إلى أي وزارة أخرى عندما حاولت رئيسة الحكومة السابقة تيريزا ماي القيام بتعديل وزاري يغير حقيبة هانت. كان هانت عضواً محترماً وفاعلاً في اللجنة البرلمانية الخاصة بالصحة، وكان صوتاً رزيناً خلال فترة الجائحة. لكن حالياً، يبدو أن لدى هانت مريضاً جديداً بين يديه ــ وهو اقتصاد ما بعد “بريكست” في وقت ينظر فيه إلى بريطانيا من جديد على أنها “رجل أوروبا المريض”.
إن أعراض المرض البريطاني تشبه إلى درجة كبيرة ما كانت شهدته البلاد في المرة الأولى في سبعينيات القرن الماضي، قبل انضمام بريطانيا إلى السوق الأوروبية الموحدة، حيث عانت البلاد نسب تضخم مرتفعة وانخفاض قيمة عملتها الوطنية وضعف الموازنة العامة ومعاناة قطاع الخدمة المدنية والاضطرابات العمالية. حالياً تشهد البلاد إعادة بروز أعراض المرض التقليدي نفسه، والسيد هانت هو مكلف اليوم إبقاء معنويات المريض مرتفعة.
لذلك تطرقت الملاحظات التي تضمنها خطابه المهم أخيراً، إلى كلام عن “الانحطاط”. فيبدو أن هانت وحده من بين كبار المسؤولين في الحكومة وحزب المحافظين، لديه الجرأة للقول إن “بريكست” كان قراراً خاطئاً ولو بشكل حذر للغاية، (لكن ووفقاً للضرورة، فهو يضيف دائماً أن “بريكست” جاء “نزولاً عند رغبة الناخبين البريطانيين”، ولذلك فإنه يتوجب علينا [المسؤولون]، السعي إلى بذل الجهود والحد من الأضرار والاستحواذ على المتاح من الفرص التي يمكن لـ”بريسكت” تقديمها).
“الانحطاط” هي العبارة التي يستخدمها هانت، وهي عبارة مشفرة المقصود منها القول “إن بريكست فشل”.
ولذلك بدا وكأنه يتوجه لنفسه عندما ذكر في خطابه أمام الحضور أنه “في هذا الشهر، بدأ كتاب الرأي في بريطانيا من اليمين واليسار بالحديث عن ’أزمة وجودية‘، وأن ’بريطانيا تتأرجح عند حد الهاوية‘، إضافة إلى ’أن كل ما يمكننا أن نتمناه… هو ألا تسوء الأمور إلى درجة أكبر‘”.
وأضاف هانت، “أنا أرحب بالنقاشات، لكن وزراء الخزانة لديهم الحق في إبداء رأيهم أيضاً. وأنا أقول التالي ببساطة، إن الحديث عن ’الانحطاط‘ في بريطانيا هو تصرف خاطئ. لقد كان ذلك خاطئأ في الماضي، وهذا تصرف خاطئ اليوم أيضاً”.
ربما، وبعدما أجرى هانت كشفاً على نتائج الكارثة التي ورثها من موازنة [وزير المالية السابق كوازي] كوارتنغ، استطاع أن يشهد عن قرب من موقعه كوزير للمالية أن بريطانيا كانت بالطبع تتأرجح على حافة الهاوية. بالطبع، فهو قال ما من شأنه تحطيم خطة من سبقوه في الهرولة نحو تحقيق النمو.
من خلال تصرفه كطبيب، يبدو أن هانت يوجه إشارة إلينا، ويقول فيها إننا كما لو كنا قد أصبنا بنوع من جلطة قلبية اقتصادية، وإن الأمور ربما تسوء أكثر قبل أن تبدأ بالتحسن ــ ولذلك فإنه علينا تقييد وضبط المدفوعات والمصاريف العامة، وعدم خفض الضرائب. كلامه أيضاً كان يشير بوضوح إلى أنه يتخلى ليس فقط عن رهان رئيسة الوزراء السابقة ليز تراس ووزير الخزانة كوارتنغ المتهور لخفض الضرائب بهدف تحفيز النمو، ولكنه يشير أيضاً إلى تخليه عن مبدأ “الدفع بقوة قدماً” boosterism الذي كان اعتمده رئيس الحكومة السابق بوريس جونسون.
إلى أي درجة يمكن اعتبار ذلك محقاً ــ وإلى أي حد أساءت عقيدة جونسون المزدوجة “الاحتفاظ بالكعكة وأكلها معاً والدفع بقوة قدماً” cakeism and boosterism، إلى أوضاع البلاد خلال الأعوام الماضية [يبقى سؤالاً مطروحاً]. إن “الانحطاط” الذي نجد نفسنا في وسطه وقع بسبب فشل “بريكست”، كما جونسون، في الجزء الأكبر من العقد الماضي.
فبعد قضائه فترتين عمدة لمدينة لندن المتعددة الثقافات والمؤيد بسعادة للاتحاد الأوروبي والمؤيد لمبدأ استقبال المهاجرين والليبرالية، لكن لأسباب خاصة للغاية تتعلق بحسابات سياسية شخصية قام جونسون بركوب قطار “بريكست” – القضية التي لم يؤمن بها يوماً – ومن المؤكد أنه لم يكن يتوقع لها الفوز في الاستفتاء البريطاني على الخروج من أوروبا.
عام 2016، كان جونسون يستخدم كل جاذبيته (التي تلاشت حالياً، لكن علينا الاعتراف بأنه كانت لديه خصائص النجومية) وميزات رجل الاستعراضات الفنية، وهو قد دعا المواطنين البريطانيين في حينه إلى تصديق أنه سيمكنهم الاستمتاع بكل العوائد التي تتيحها عضوية الاتحاد الأوروبي من دون الضرورة لدفع كلفها.
فلسفته الشخصية التي يتبعها كانت تقول “إنه متى توقف الأمر على أكل الكعكة، فأنا مؤيد للغاية للقدرة على الاستحواذ على الكعكة والتهامها كاملة”. وكان يقدم نفسه على أنه نسخة تتمتع بالاحترام بشكل أكبر [من السياسي البريطاني الشعبوي المثير للجدل] نايجل فاراج، ووعد البلاد بأنها “ستزدهر بقوة عظيمة”، بغض النظر عما سيجري. وبدا للحظة أنه قادر حتى على الإيمان بمعتقداته السحرية. بحلول موعد انتخابات 2019 العامة، كان “الدفع بقوة قدماً” غير المنطقي الذي اعتمده بوريس جونسون امتد ليشمل كل جوانب الحياة العامة البريطانية: من “تحسين مستويات المعيشة”، إلى “العمل على بناء بريطانيا أفضل” building back better، ولا يجب أن ننسى شعاره بالطبع أنه علينا “إنجاز عملية بريكست” get Brexit done.
على رغم تحليه بصفات الناشط الجيد، تبين لاحقاً أن جونسون كان الشخصية الأسوأ التي يمكن اختيارها لتحمل مسؤولية عملية مفاوضات دولية معقدة [كـ”بريكست”]. وانتهت المملكة المتحدة نتيجة ذلك، بمعاهدة للخروج معيبة وفاشلة، حتى إن جونسون لم يقرأها قبل التوقيع عليها، وكان واثقاً من أنه سيمكنه أن يضغط كالعاصفة في طريق إعادة التفاوض بعد ظهور المشكلات ــ مثل مسألة بروتوكول إيرلندا الشمالية ــ التي كان لا مفر من أن تطفو إلى السطح. جونسون كان أيضاً شخصية مؤهلة بشكل ضعيف للتعامل مع جائحة كورونا ــ كما أصبحنا نعرف اليوم بشكل جيد.
وها نحن من جديد نرى كيف أن المزارعين وأصحاب المؤسسات التجارية قلقون على مستقبلهم. فمهما كان عدد المرات التي نصرخ فيها قائلين “ثقوا ببريطانيا”، يبدو أن المستثمرين الدوليين غير مقتنعين بذلك. إن مديري صناديق الاستثمارات الواقعيين بشدة، وكبرى الشركات الدولية لم يكونوا يوماً معجبين بزعامة بوريس جونسون، وهو يرتدي السترة الصفراء وقبعة عمال البناء خلال جولاته على المنشآت الاقتصادية رافعاً إبهامه [للإيحاء بأن كل شيء يسير على ما يرام].
لكن، وفيما يواصل كثيرون محاولات نسيان زعيمهم السابق المغرور، فإن وزير المالية هانت وحتى حزب المحافظين لا يتجرأون حتى على مناقشة موضوع أن “بريكست” كان مشروعاً فاشلاً. إذاً، ها هو الوزير هانت وقد نجح في اختراع صورة البديل هذا ــ العدو الشبح لـ”الانحطاط” – كي يسعى من خلاله إلى مهاجمة من يدعون بأن الاقتصاد البريطاني آيل للسقوط.
الجميع على دراية بأن مشكلة المملكة المتحدة الاقتصادية الفريدة هي تداعيات “بريكست”. في الخريف الماضي، كان المؤمنون الحقيقيون بمنطق “بريطانيا العالمية” هم الأعضاء التقليديين العاديين لحزب المحافظين، من الذين يعتقدون بأن حتى جونسون، وعلى رغم أنه كان مقيداً بسبب [دور وزير ماليته المنضبط] سوناك، لم يكن محافظاً أصلياً. في ظل إدارة تراس، جربت بريطانيا مبادئ “بريكست” وصولاً إلى حد عاد بأثر تدميري [على البلاد].
لكن حتى الآن، هناك فصيل في حزب المحافظين ممن يواصلون رفضهم قبول هزيمتهم على يد الواقعية السياسية. إن أنصار تراس قاموا بإعادة تنظيم أنفسهم تحت شعار “مجموعة النمو في حزب المحافظين” Conservative Growth Group، وهناك حديث يدور حول أن ليز تراس ستسعى إلى التدخل ولعب دور في النقاش حول ملف الضرائب. في تلك الأثناء، يعول [السياسي اليميني الشعبوي نايجل] فاراج وعتاة المحافظين المتشددين على رغبتهم في تحقيق [ما يسمونه] “بريكست” الحقيقي بنسخته 2.0، ويسعون كي تتخلى المملكة المتحدة عن التزام المعاهدة الأوروبية لحقوق الإنسان (من دون أن تكون لتلك المعاهدة أي علاقة بالاتحاد الأوروبي)، والعمل على خفض نسبة اللاجئين الوافدين بشكل أكبر، والعمل على إلغاء اتفاق التجارة الحرة بين بريطانيا والاتحاد الأوروبي من خلال مساعيهم لاستبدال ذلك باتفاق مع الاتحاد الأوروبي يصار من خلاله إلى التجارة مع أوروبا وفق قواعد منظمة التجارة العالمية، وهي تشكل أقسى سيناريو “بريكست” متاح.
لا بد من الإشارة هنا إلى أن المزاج العام في المملكة المتحدة حالياً هو معاد لمؤيدي “بريكست” المتشددين. إن المواطنين البريطانيين العاديين لطالما كانوا براغماتيين، ويمكنهم أن يلاحظوا أن مشروع “بريكست” غير مجدٍ. ولم يرق إلى الوعود التي كانت أطلقت [حول نجاعته لبريطانيا]. وبشكل متنافر للغاية: فبعدما قام جونسون بإطاحة رئيسة الوزراء تيريزا ماي بشكل غير سوي ــ التي كان خطأها القاتل عدم قدرتها على تصديق أن اثنين زائد اثنين يساوي خمسة ــ وصل إيمان جونسون التفاؤلي إلى درجات لا متناهية.
في خطوة تقليدية تنم عن محاكاة ساخرة للذات ــ فالسياسة لطالما كانت بالنسبة إلى جونسون حيزاً يسمح بإطلاق موهبته بالأداء الفني ومباراة لا يمكن له أن يخسرها شخصياً ــ وهو أعلن عنها في أول يوم تولى فيه رئاسة الوزراء قائلاً، “إن المشككين ومروجي الخوف من الموت وأولئك السلبيين ــ سيفشلون من جديد في تقييم الأمور. إن من يضع رهاناته على فشل بريطانيا [في مشروع “بريكست”] سيخسرون قمصانهم”.
حسناً، إنهم لم يخسروها. لقد خسرت بريطانيا.
إذاً، ربما لم يكن هذا هو “بريكست” الذي كان يطالب بتحقيقه حوالى نصف المجتمع البريطاني، ولكنه اتفاق “بريكست” الذي فاوض من أجل تحقيقه بوريس جونسون، ووافق عليه، وشن حملات ترويج من أجله. إن “بريكست” أصبح هنا. والآن أصبح حزبه والبلد مثقل بحمله، ولا أحد يعاني جراء هذا الحمل الثقيل أكثر من وزير المالية الواقعي جيريمي هانت. اشعروا معه بالألم الذي يعيشه.