شرعية مجلس النواب العراقي في ظل هيمنة الأحزاب المسلحة

كتب أدهم ابراهيم في صحيفة العرب.
وجود الميليشيات المسلحة في البرلمان يمثل حالة شاذة وخطيرة ويشير إلى أزمة سياسية مستمرة ناجمة عن غياب احترام سيادة القانون ما يتسبب في انعدام الاستقرار السياسي والأمني والاجتماعي.
منذ تأسيس النظام السياسي الجديد في العراق عام 2003، استمد شرعيته من مبدأ التمثيل الديمقراطي القائم على الانتخابات النيابية، حيث يُفترض أن يكون مجلس النواب نتاج إرادة شعبية حرّة تُعبّر عنها أحزاب سياسية مدنية.
غير أن المشهد السياسي العراقي يكشف عن مفارقة خطيرة، إذ أن كثيرًا من الأحزاب التي تُشكّل البرلمان اليوم ليست سوى أذرع لتنظيمات مسلّحة، ما يثير تساؤلات جدّية حول شرعية النظام بأكمله، في ظل مخالفة واضحة للدستور، وتقاعس بعض المؤسسات الرقابية والقضائية عن أداء أدوارها الحاسمة.
والواقع أن التمييز بين الأحزاب السياسية والميليشيات المسلحة في السياق العراقي الحالي بات غير واضح، حيث تم دمج هذه الميليشيات في المؤسسات التشريعية، ما أدى إلى طمس مفاهيم التمثيل السياسي، وألقى بظلال من الشك على شرعية النظام.
إن الفشل في إنشاء أحزاب سياسية مدنية، كما هو الحال في الديمقراطيات الحديثة، ترك فراغًا في التمثيل السياسي، غالبًا ما ملأته أحزاب ذات أذرع مسلّحة.
فالدستور العراقي نصّ على حظر تشكيل الميليشيات العسكرية خارج إطار القوات المسلحة، ومنع أي تنظيم مسلّح من العمل السياسي أو المشاركة في الانتخابات. ويعكس هذا النص التزام الدولة المفترض بالفصل التام بين العمل السياسي والعمل العسكري، وضمان أن تكون الساحة السياسية مدنية بالكامل.
لكن على أرض الواقع، نرى أحزابًا كبرى تشارك في العملية السياسية ولها تشكيلات مسلّحة تمارس نشاطها علنًا. ورغم أن بعضها يُدرج ضمن هيئة الحشد الشعبي، فإن ارتباطها السياسي والولائي بهذه الأحزاب يضعها في حالة تضارب مصالح خطير، حيث يُستخدم السلاح في كثير من الأحيان لترهيب الخصوم أو فرض الأمر الواقع.
وفي هذا السياق، تقع مسؤولية مخالفة النصوص الدستورية على عاتق مجلس القضاء الأعلى، بصفته الجهة الرقابية العليا على دستورية العملية السياسية وسلامة تنفيذ القوانين. فغياب الإجراءات القضائية بحق الأحزاب التي تخالف الدستور وتشارك في الانتخابات رغم امتلاكها أذرعًا مسلّحة، يشير إلى تقصير واضح، سواء على مستوى الرقابة أو على مستوى المتابعة القانونية. وكان يُفترض أن يباشر القضاء بإجراءات قانونية لحظر أو تحجيم دور هذه الأحزاب، حمايةً للدستور وصيانةً للنظام الديمقراطي.
كما تتحمّل المفوضية العليا المستقلة للانتخابات مسؤولية مباشرة في السماح لأحزاب مرتبطة تنظيمياً أو عملياً بجهات مسلّحة بالمشاركة في الانتخابات. فالدستور، إلى جانب قوانين الأحزاب والانتخابات، يمنح المفوضية صلاحيات واسعة في التدقيق والتحقيق في ملفات الأحزاب والمرشحين، بما في ذلك مدى امتثالهم لشروط العمل السياسي المدني. لكن إحجام المفوضية عن فرض هذه المعايير، نتيجة الضغوط السياسية، أسهم في استمرار مخالفة الدستور.
وقد انعكس كل ذلك سلبًا على شرعية النظام السياسي، إذ أن وجود برلمان تُشكّله قوى تخرق المبادئ الدستورية يفقد النظام شرعيته الفعلية، حتى لو توفرت مظاهر شكلية كالانتخابات أو تشكيل الحكومات. فعندما تتحكم قوى مسلّحة في العملية السياسية، يتحول الاقتراع إلى وسيلة لتثبيت سلطة مفروضة، لا إلى خيار حر، وهو ما يُبطل جوهر الديمقراطية ويحوّل النظام البرلماني إلى واجهة لنفوذ غير دستوري.
وإذا أضفنا إلى ذلك عمليات التزوير الممنهجة للانتخابات، يتّضح حجم الخروقات الدستورية وانتهاك الأعراف الدولية.
إن وجود الميليشيات المسلحة في البرلمان يمثل حالة شاذة وخطيرة، ويشير إلى أزمة سياسية مستمرة ناجمة عن غياب احترام سيادة القانون، ما يتسبب في انعدام الاستقرار السياسي والأمني والاجتماعي.
فإذا كانت شرعية أي نظام ديمقراطي تُقاس بمدى التزامه بالدستور واحترامه لحق المواطن في اختيار ممثليه بحرية، فإن النظام العراقي يقف اليوم على مفترق طرق: إما أن يُعاد ضبط مساره على أسس مدنية دستورية حقيقية، أو يبقى خاضعًا لقوى الأمر الواقع المسلّحة، وهو ما يُهدد وجود الدولة ذاتها، لا مؤسساتها فقط، ويضع مستقبل البلاد على حافة الهاوية.