سورية…. الخروج من المستنقع
كتب علي العبدالله في صحيفة العربي الجديد.
دخلت العملية السياسية في سورية في استعصاء خانق، على خلفية تمسّك النظام ليس بالبقاء في السلطة فقط، بل وبإعادة الوضع إلى ما كان عليه قبل انفجار ثورة الحرية والكرامة، وتمسّك المعارضة بإحداث تغيير سياسي وإقامة نظام ديمقراطي يتناسب مع حجم التضحيات الكبيرة التي قدّمها الشعب السوري ثمنا للحرية والتحرّر من الاستبداد والتمييز والفساد. وقد زاد الطين بلة انخراط قوى إقليمية ودولية، إيران وتركيا وإسرائيل والولايات المتحدة وروسيا… إلخ، في هذا الصراع سياسياً وعسكرياً، وتحويله إلى صراع على سورية، عبر سعي كل منها إلى تحقيق مصالحها بالعمل على تعزيز أوراقها وتوسيع نفوذها وتحقيق مكاسب جيوسياسية على حساب المنافسين، من جهة، وزرع العقبات في طريق المنافسين وعرقلة تحرّكاتهم واحتواء نفوذهم، من جهة ثانية، وسفور التنافس المديد عن نجاح روسيا وإيران في حماية النظام من السقوط وتكريس سيطرته على مساحة معتبرة من الأرض السورية، حوالى 60% منها، وتآكل الإجماع بين مجموعة أصدقاء الشعب السوري الـ103 دول، وتحول المتبقين منها نحو خيار تغيير سلوك النظام بدل إسقاطه. هذا من دون اعتبار لمصالح الشعب السوري وتطلعات قوى الثورة وحواضنها الاجتماعية الكبيرة المشروعة نحو التغيير الديمقراطي والاستقرار السياسي والازدهار الاقتصادي.
لم يحصل الاستعصاء دفعة واحدة، بل مرّ بمراحل عديدة من بيان جنيف 1 عام 2012، وتركيزه على تشكيل هيئة حكم انتقالية كاملة الصلاحيات وانتخابات ودستور، وربطه تنفيذ هذه الخطوات بالحوار والشراكة بين النظام السوري والمعارضة، إلى قرار مجلس الأمن 2254 عام 2015 وتكريسه، رغم تعنّت النظام ومراوغاته لتخريب الجهود العربية والدولية لإيجاد حلٍّ سياسي للصراع، لمبدأ الموافقة المتبادلة شرطاً لتشكيل هيئة الحكم الانتقالية، إلى سلال ديمستورا الأربع، والغرق في مفاوضات عبثية في اللجنة الدستورية، بدءا من عام 2019 بجولاتها الـثماني من دون إنجاز يُذكر، مرورا بجنيف 2 عام 2014 ومسار أستانة بدءا من عام 2017 بجولاته الـ21، آخر جلسة عقدت في يناير/ كانون الثاني 2024، ومؤتمر الحوار الوطني السوري في سوتشي عام 2018، وصولا إلى مؤتمر بروكسل الثامن للدول المانحة عام 2024 وما عكسه من سيطرة الإحباط ليس على مداخلات ممثلي المعارضة ومنظمّات المجتمع المدني السورية فقط، بل وعلى كلمات وفود الدول المشاركة بما في ذلك كلمة ممثل القوة العظمى، الولايات المتحدة، وممثلي دول الاتحاد الأوروبي.
تكرّس الاستعصاء بفعل التنافس المحموم بين القوى الإقليمية والدولية المذكورة أعلاه بعد نزولها بجيوشها ومليشياتها على الأرض السورية واستقطابها واستتباعها قوى محلية وزجّها في معارك بالوكالة للتأثير في توازنات القوى ميدانيا؛ وبسطها سيطرتها على مساحات منها وإقامة سلطات أمر واقع عليها؛ تقسيم سورية عمليا، لفرض شروطها وحل الصراع بالصيغة المناسبة لمصالحها. وقد زاد تصاعد التنافس بين القوى العظمى، الولايات المتحدة وروسيا والصين، عالميا وانعكاسه على الساحة السورية تعقيد الموقف وجعل إمكانية التحرّك نحو حل سياسي للصراع في سورية وعليها مرهوناً بتطوّرات هذا التنافس وتحولاته في أكثر من ساحة وإقليم، أوكرانيا تايوان، أرمينيا، جورجيا وآسيا الوسطى والشرق الأوسط والقطبين الشمالي والجنوبي، وبنجاح هذه القوى في عقد اتفاقات وتسويات حول ملفات ساخنة بينها، ما جعل التحرّك المحلي لإيجاد حل سياسي بغياب تحرّك دولي فاعل صعبا إن لم يكن مستحيلا. يمكن الاعتبار من فشل التحرك العربي، لإيجاد حل سياسي عبر آلية خطوة مقابل خطوة، لأنه لم يحظ بمباركة دولية شاملة.
العبرة بالفعل على الأرض، لا بالبيانات والجمل الثورية، والبدء من نقطة عملية هدفها المحافظة على رؤية الثورة
وقد كان لافتا أن تجري في هذا المناخ الإقليمي والدولي المعقد والسلبي محاولات سورية معارضة لإطلاق حراك جديد عبر دعوة المواطنين السوريين إلى الالتفاف حول مبادئ محدّدة ودفعهم إلى التوافق على مخرج سياسي يحظى بإجماع وطني شامل، وثيقتا المناطق الثلاث والمبادئ الخمسة اللتان أعلنتا أخيراً، بتجاهل تام للشروط الموضوعية المطلوبة لتسويق أي خطة ونجاحها، ما يعني مجانية المحاولة وتضييع الجهود سدى.
يستدعي المنطق والحصافة من قوى المعارضة ومثقفيها مراعاة الشروط الذاتية والموضوعية للنجاح وعدم التوهم والقفز نحو استنتاجات مضلّلة على خلفية بيانات التأييد والانضمام الصادرة باسم قوى مجهولة الحجم والتأثير، لأن العبرة بالفعل على الأرض، لا بالبيانات والجمل الثورية، والبدء من نقطة عملية هدفها المحافظة على جمر الثورة متقداً تحت الرماد، عبر ترميم المشروع الوطني السوري بالعمل على تخليصه مما علق به في العقد الأخير من شوائب وتشوهات، نتيجة انعدام استراتيجية واضحة تحكُم تحرّك الثورة ومؤسّساتها السياسية والميدانية، وعدم اعتماد التفكير والتخطيط الجماعي والعمل المؤسّسي المنظم والمدروس، وافتقارها إلى مرونة سياسية وميدانية تراعي التطورات والتغيرات المحلية والإقليمية والدولية، وسيادة عقلية الارتجال والتجريبية، والممارسات الشائنة التي قامت بها الفصائل المسلحة وسلطات الأمر الواقع بتعدّيها على المواطنين وحقوقهم بالقتل والخطف والتعذيب ومصادرة الأملاك ونهب الأرزاق، وتحويل المقاتلين إلى مرتزقة في ليبيا وأرمينيا والنيجر، وانعكاسها السلبي، بل شديد السلبية، على صورة الثورة والثوار وتآكل تأييدهما بين المواطنين الذين كفروا بالثورة والتغيير على خلفية ما عانوه من قهر وذلّ وجوع. وأول خطوة على طريق عملية “الترميم” هي الشفافية ومصارحة السوريين بشكل عام وحواضن الثورة بشكل خاص بما جرى والاعتراف بالأخطاء والتقصير الكبير الذي حصل.
الدعوة إلى بديل من دون ممارسة نقد جوهري وجذري وتحديد الأخطاء ونقاط الضعف والقصور ليس أكثر من وصفة للفشل
صحيحٌ أن الظروف الذاتية والموضوعية التي حكمت مسار الثورة من أجل التغيير الديمقراطي، من هيمنة النظام الأمنية والاقتصادية عقوداً، إلى ترهّل الأحزاب والقوى السياسية المعارضة، إلى التوجّه الإقليمي والدولي لتكريس الاستقرار على حساب الحريات والعدالة والمساواة، مروراً بعفوية الثورة والتحرّك السياسي والميداني على قاعدة رد الفعل، قد ساهمت في إخفاق محاولة الثوار تشكيل بديل مقبول للنظام، بالرغم من وجود عشرات الأحزاب والكيانات والمنظمات المدنية والتكتّلات السياسية والشخصيات النافذة، وفي خسارة الثورة الدعميْن العربي والدولي، فإبقاء جمر الثورة متّقداً تحت الرماد يستدعي البدء بمراجعة شاملة ودقيقة لمسيرتها في العقد الماضي، وأدبياتها السياسية وممارساتها العملية، ونقد مكامن الخلل والرؤية الوطنية الناقصة التي قادت التحرك الثوري نقدا جوهريا، جدّيا ومسؤولا، وتحديد الرؤية البديلة بدلالة مصالح الشعب السوري والتغيير الوطني الديمقراطي وتحديد الأهداف الواقعية والممكنة، فالمراجعة النقدية الحقيقية، الجادّة والمسؤولة، والاعتراف بالأخطاء الفردية والجماعية ضرورية لاسترجاع الثقة وتمتين الروابط اللازمة لحسن سير العمل مستقبلا.
انطلاقا من ذلك، التبرم من النقد أو استنكاره، الذي تروّجه القوى السياسية المهيمنة، وبعض مثقفي المعارضة، غير منطقي، ويضرّ بفكرة السياسة بربطها بإرادة القائد، أو القيادة، والالتفاف على دور المواطنين وحقهم في المشاركة في اتخاذ القرار السياسي والاقتصادي والاجتماعي وتحديد المطالب والأهداف الوطنية.
تكريس ثقافة النقد الجوهري وتعميمه على كل مستويات ممارسة المعارضة والثورة السياسية والميدانية وإجراء مراجعة نقدية مسؤولة لكل الخيارات السياسية والنضالية وأساليب العمل وإدارة الصراع السابقة ضرورية جدا لتهيئة المسرح لولادة بديل أكثر نضجاً، وأقدر على القيام بمهام المرحلة وقيادة السفينة نحو برّ الأمان، وإلا بقيت القوى والشخصيات المتصدّرة مشهد المعارضة والثورة مسيطرة كسلطة أمر واقع، وواصلت ممارساتها الهزيلة وغير المُجدية، فالدعوة إلى بديل من دون ممارسة نقد جوهري وجذري وتحديد الأخطاء ونقاط الضعف والقصور ليس أكثر من وصفة للفشل، لأنها لن تنجو من الوقوع في حبال الوصفات العامة والفضفاضة عن التغيير والديمقراطية والمواطنة وتوحيد القوى، والإمعان في تكرار الأخطاء السابقة.
يستدعي المنطق والحصافة من قوى المعارضة السورية ومثقفيها مراعاة الشروط الذاتية والموضوعية للنجاح
يتمثّل الجهد الثاني المطلوب لإبقاء جمر الثورة متّقداً تحت الرماد بتنشيط المجتمعات والتجمعات السورية في الداخل والخارج، بعمل مباشر وتأطير قواها النشطة في لجان وفرق عمل لتنفيذ مهام عينية، مثل جمع التبرّعات للنازحين في المخيمات وتوفير مستلزمات علاجية وتعليمية وخدمية لهم، والتواصل مع المنظمّات الدولية والعربية والإقليمية لحثها على تقديم مساعدات غذائية وطبية وخدمية وعينية لهذه المخيمات أولا، ولبقية السوريين المحتاجين للدعم في مناطق عيشهم تاليا، وإنشاء أطر زراعية وبيطرية لمساعدة النازحين والمزارعين من السكان على تنفيذ مشاريع زراعية مثمرة ومربحة وتربية مواش ودواجن وإقامة صناعات صغيرة على منتجاتها من الحليب والبيض واللحوم، وأطر اقتصادية للتشجيع على إقامة مشاريع صغيرة تحرّر النازحين من العوز والفقر، وتشكيل أطر إعلامية وإذاعات محلية لرصد ومتابعة التطورات والانتهاكات ونشرها على الرأي العام المحلي والعربي والدولي، وأطر ثقافية مناطقية لتنظيم لقاءات ثقافية وفكرية لترويج مطلبي التغيير والديمقراطية، وعقد لقاءات سياسية وفكرية مناطقية لشرح تطوّرات الموقف والجهود المبذولة لتحسين أوضاع النازحين واللاجئين والعمل على كسر حالة الاستعصاء السياسي وبثّ الأمل في النفوس والتشجيع على الإيجابية والتفاعل، وأطر فنية وفرق مسرحية ومسارح للتثقيف والترفيه ولتشجيع الأطفال في المخيمات على المشاركة والكشف عن مواهبهم وتنميتها وللترفيه عنهم، وأطر رياضية لتشجيع الأطفال على دخول عالم الرياضة الواسع وشغلهم بما يفيد وإخراجهم من حالات العزلة والاكتئاب واليأس، وأطر لتنظيم فعاليات ونشاطات، اعتصامات ومسيرات ومهرجانات خطابية، بمناسبات محددة، ذكرى المجازر والقصف بالمواد الكيماوية السامة والمناسبات الوطنية العامة، الجلاء، الاستقلال… إلخ، لإعطاء انطباع راسخ بالاستمرارية والثبات.
صاغ مارتن لوثر كينغ الابن في رسالته من سجن برمنغهام الموقف النضالي في مواجهة الإنكار والرفض لحقوق السود بقوله: قد تسأل لماذا العمل المباشر؟ لماذا الاعتصامات والمسيرات وما إلى ذلك؟ أليس التفاوض طريقاً أفضل؟ أنت محقّ تماما في الدعوة إلى التفاوض. في الواقع، هذا هو الهدف من العمل المباشر. يسعى العمل اللاعنفي المباشر إلى إحداث مثل هذه الأزمة، وتعزيز مثل هذا التوتر الذي يجبر المجتمع الذي يرفض التفاوض باستمرار على مواجهة القضية.