رأي

سنتان على الحرب الروسية الأوكرانية

برغم أن حرب غزة، سرقت الكثير من الاهتمام الدولى بالحرب الروسية ــ الأوكرانية، فإن النزاع الأوكرانى الذى دخل السبت الماضى عامه الثالث، لا يزال نقطة الارتكاز فى المواجهة الأوسع بين روسيا والغرب، ولا تزال مفاعيله تلقى بثقلها على القارة الأوروبية والعالم، وتفرض عليهم تحديات استراتيجية، من الأمن إلى التبدل الحاصل فى مجتمعات أخذت تنحو منحى اليمين المتطرف.
الجبهات الأوكرانية العطشى إلى الذخائر وسائر الإمدادات الغربية، والأمريكية منها تحديدا، هى اليوم فى موقف دفاعى، وتحت ضغط روسى متواصل لإحداث اختراقات تعيد ترجيح كفة موسكو على الأرض، بما يقنع واشنطن أن هزيمة روسيا فى أوكرانيا متعذرة، وبأنه لا بد للجلوس إلى طاولة الحوار. هذه كانت خلاصة مقابلة الرئيس الروسى فلاديمير بوتين مع المذيع الأمريكى المحافظ تاكر كارلسون.
التأخير الحاصل فى المساعدات العسكرية الأمريكية، بسبب إصرار الحزب الجمهورى على أن الحدود الجنوبية للولايات المتحدة مع المكسيك هى أهم بكثير من الحدود الأوكرانية مع روسيا، انعكس انسحابا أوكرانيا من مدينة أفدييفكا فى منطقة دونيتسك قبل أيام، برغم أهمية هذه المدينة استراتيجيا ورمزيا. نصح القادة العسكريون الأمريكيون الرئيس الأوكرانى فولوديمير زيلينسكى بألا يُكرّر الخطأ الذى ارتكبه فى باخموت قبل عام عندما أصر على التشبث بالمدينة فى مواجهة هجمات شركة فاجنر التى أفقدت الجيش الأوكرانى نخبة مقاتليه، مما كان سببا رئيسيا فى الهجوم الأوكرانى المضاد فى الصيف.
يُقرّ رئيس الأركان الأوكرانى الجديد الجنرال أولكسندر سيرسكى بأن الوضع على الجبهات «معقد جدا». هذا رأى لا يختلف كثيرا عما قاله سلفه الجنرال المعزول فاليرى زالوجنى من أن الحرب وصلت إلى «طريق مسدود» عقب فشل الهجوم المضاد. وفى الأيام الأخيرة، بدأ زيلينسكى، بناء على تقارير سيرسكى، يعترف بأن «الوضع بالغ الصعوبة»، ويناشد الكونجرس الأمريكى التغلب على الصعوبات التى تعترض إقرار المساعدة العسكرية لأوكرانيا البالغة 61 مليار دولار، تحت طائلة التعرض لخسارة المزيد من الأراضى. أما الاتحاد الأوروبى الذى وعد أوكرانيا بمليون قذيفة مدفعية بحلول مارس المقبل، فلن يكون قادرا على الوفاء إلا بنصف الكمية.

• • •

فى المقابل، يتمتع الجيش الروسى الآن بتفوق عددى وتسليحى، وتمكن من تعويض الكثير من النقص فى الذخائر عن طريق الاستعانة بقذائف وصواريخ من كوريا الشمالية. كما اعتمد خلال العام الماضى على مسيّرات «شاهد ــ 136» الإيرانية لإرهاق الدفاعات الجوية الأوكرانية. وهناك قلق أمريكى جدى من احتمال تزويد طهران لموسكو بصواريخ «فاتح ــ 110» و«ذو الفقار».
التعقيدات على الجبهة، انعكست تراجعا فى شعبية زيلينسكى، الذى تنتهى ولايته الرئاسية فى مايو المقبل. لكن بموجب القوانين العرفية المفروضة فى البلاد، ستُرجأ الانتخابات الرئاسية إلى أجل غير مسمى. وهذه خطوة لا تصب فى مصلحة زيلينسكى الذى بدأ يظهر له منافسون جدّيون من زالوجنى إلى رئيس بلدية كييف فيتالى كليتشكو إلى الرئيس السابق بيترو بوروشنكو.
ولا حاجة إلى كبير عناء لتلمس تآكل الدعم الأوروبى أيضا. عند الحدود مع أوكرانيا، يقف مزارعون بولنديون غاضبون ليقفلوا الطريق أمام شحنات القمح الأوكرانى. هذه الحدود نفسها كانت قبل عامين بالضبط رمزا للتأييد العارم الذى حظيت به كييف فى أوروبا. ملايين من اللاجئات واللاجئين الأوكرانيين عبروا الحدود البولندية من دون أوراق ثبوتية إلى بقية أنحاء أوروبا والعالم، واستقر نحو مليون منهم على الأراضى البولندية مع تمتعهم بكل الامتيازات التى يستفيد منها الشعب البولندى.
لحظة التضامن هذه ضاعت عندما شعر المزارعون البولنديون أن محاصيلهم الزراعية ليست قادرة على منافسة القمح الآتى من أوكرانيا، ليتمردوا على توصية الاتحاد الأوروبى بالاستمرار فى فتح الأسواق أمام المنتجات الأوكرانية، كوسيلة من وسائل دعم أوكرانيا فى الحرب ضد روسيا. ما يجرى فى بولندا يسرى أيضا على بلغاريا ورومانيا.
الأدهى من ذلك، أن آخر استطلاع للرأى نشرته مجلة الإيكونوميست البريطانية، الأسبوع الماضى، أظهر أن 10 فى المئة فقط من المواطنات والمواطنين الأوروبيين يعتقدون أن فى إمكان أوكرانيا استعادة أراضيها بالقوة.

• • •

الحرب الروسية ــ الأوكرانية، تُمعن فى تغيير وجه أوروبا. الاستغناء عن الطاقة الروسية الرخيصة، والاستعانة بالطاقة الأمريكية الأغلى بأربعة أضعاف، يُرهق الاقتصادات الأوروبية ويرفع التضخم. وألمانيا مثال فاقع على المعاناة. وينعكس ذلك على ميول الشعوب الأوروبية إلى أجندات اليمين المتطرف. والبعض يُشبّه الوضع بذاك الذى كان سائدا إبّان «جمهورية فايمار» فى أوائل ثلاثينيات القرن الماضى عندما صعد النازيون إلى الحكم على خلفية وضع اقتصادى كارثى. اليوم، تظهر الاستطلاعات أن حزب «البديل من أجل ألمانيا» سيحل أولا فى انتخابات البرلمان الأوروبى فى يونيو المقبل، متخطيا الحزبين التقليديين: الاشتراكى الديموقراطى بزعامة المستشار أولاف شولتس والاتحاد المسيحى الديموقراطى المعارض.
نتائج اليمين المتطرف، بحسب الاستطلاعات هى الأفضل فى فرنسا أيضا ودول أوروبية أخرى، ويستعد رئيس الوزراء المجرى اليمينى المتطرف فيكتور أوربان لملاقاة أحزاب اليمين المتطرف لتشكيل أكبر كتلة فى البرلمان الأوروبى.
على أن صعود اليمين المتطرف ليس الظاهرة الوحيدة التى تؤرق أوروبا. هناك سباق التسلح والانفاق العسكرى، فالدول الأوروبية لم تعد تملك ترف الاتكال على الحماية الأمريكية، عقب تهديد الرئيس الأمريكى السابق دونالد ترامب الأوفر حظا بنيل ترشيح الحزب الجمهورى للانتخابات الرئاسية فى 5 نوفمبر المقبل، بتشجيع روسيا على مهاجمة دول أعضاء فى حلف شمال الأطلسى إذا كانت لا تدفع مستحقاتها المالية المتوجبة عليها للحلف وهى 2 فى المئة من إجمالى دخلها القومى. هناك 18 دولة من أصل 31 تفى بالتزاماتها المالية.
هيمنت هذه التهديدات على مؤتمر ميونيخ للأمن، الأسبوع الماضى، وأعادت إحياء فكرة أن أوروبا يجب أن تعتمد على نفسها عسكريا، من الآن فصاعدا. وهذه الحكومة البريطانية تروّج لفكرة «جيش المواطنين»، لمواجهة النقص فى الإقبال على التطوع فى الجيش.
أوروبا التى اعتادت منذ الحرب العالمية الثانية الاتكال على الحماية الأمريكية، تستفيق الآن على واقع أن روسيا التى تنفق 7.1 فى المئة من إجمالى ناتجها القومى على التسلح، ستتمكن من الآن وحتى عام 2027 من إعادة بناء قوتها العسكرية التى فقدتها فى الحرب الأوكرانية، والعودة تاليا لتُشكّل تهديدا هذه المرة لدول أعضاء فى الأطلسى. فكيف سيستوى الأمر فى حال استمر الميل الانعزالى لدى الجمهور الأمريكى بوجود ترامب أو من دونه. ويُقال إن الرئيس جو بايدن لو نجح فى البقاء فى البيت الأبيض لولاية ثانية، سينشغل أكثر بالجبهة الآسيوية.
أمام هذه الوقائع التى فرضتها الحرب الروسية ــ الأوكرانية، لن يكون متاحا لأوكرانيا إعادة بناء قوة هجومية قبل 2025، حتى ولو أقر الكونجرس المساعدات العسكرية، وحتى ولو أبرمت كييف مزيدا من الاتفاقات الأمنية مع دول أوروبية.

• • •

عامان انصرما على حرب تُعيد تشكيل العالم أو على الأقل وضعته فى طور إعادة التشكيل.. والهزيمة الاستراتيجية التى توخت أمريكا إلحاقها بروسيا لم تتحقق حتى الآن، على الرغم من الدعم العسكرى الغربى لأوكرانيا وعلى الرغم من فرض الغرب 16500 عقوبة على الكرملين (آخرها 500 عقوبة يوم الجمعة الماضى).
أمام هذا المأزق ألا يفترض بالولايات المتحدة إعادة النظر فى استراتيجيتها؟ هذا استحقاق متروك لما بعد الانتخابات الرئاسية الأمريكية التى على ضوء نتائجها يتقرر الكثير بالنسبة لمستقبل النزاع فى أوكرانيا.

المصدر: “الشروق”

أخبار مرتبطة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى