سلام أوجلان… هل يُحيي القامشلي؟!

كتب باسل عبد الكريم في صحيفة البيان.
أكتب لكم من مدينة القامشلي الواقعة شمال شرق سورية، هذه المدينة التي تتصدر دوماً نشرات الاخبار وعناوين الصحف في سياق المشهد السياسي ومستقبل شكل الدولة السورية الجديدة. فمنذ العام 2011، ومع تفاقم الحرب السورية، تحوّلت القامشلي الخاضعة لسيطرة قوات سورية الديمقراطية (قسد) والتي أعلنت شكلاً من أشكال الإدارة الذاتية، من مدينة هامشية هادئة إلى عقدة سياسية وعسكرية تتقاطع فيها مصالح محلية ودولية، فيما يستمر تعطيل مؤسسات الدولة السورية في معادلة هشّة لا تنتج أي استقرار حقيقي.
ومع بدء جولة جديدة من المفاوضات بين قوات سورية الديمقراطية وحكومة الرئيس الشرع، يعود الأمل من جديد إلى المدينة الراغبة بإيجاد حل حقيقي يضمن استقرارها وحقوقها، ومعها يعود الحديث عن إعادة هيكلة العلاقة الكردية بالدولة السورية، في ظل تقاطعات إقليمية معقّدة، أبرزها إعلان الزعيم الكردي عبد الله أوجلان، في رسالة مصورة انهاء الكفاح المسلح وبدء جزء من عناصر حزب العمال الكردستاني تسليم أسلحتهم وإحراقها في مشاهد رمزية حول رغبتهم في الانتقال الكامل للعمل السياسي، والبدء في عملية سلام تاريخية مع تركيا. هذا الإعلان لا يمكن فصله عن الواقع في القامشلي، فالحاضنة الكردية في المدينة، المرتبطة وجدانياً وسياسياً بحزب العمال الكردستاني، تعيش اليوم على إيقاع ما يجري في أنقرة وقنديل. وأي اتفاق تركي-كردي، سواء على مستوى السلاح أو الحكم الذاتي، سيكون له صدى مباشر على ملامح الإدارة الذاتية في شمال شرق سورية، وعلى مصير مشروع “روج آفا” الذي نشأ فعلياً بعد انسحاب النظام السوري من مناطق واسعة عام 2012.
يبدو واضحاً أن العلاقة بين قسد والنظام السوري تعكس حالة صدام بين مشروعين متباينين في الرؤية والغاية، فبينما تصر دمشق على مركزية الحكم واستعادة السيطرة الكاملة على كافة الأراضي السورية، تسعى الإدارة الذاتية، المدعومة عسكرياً من واشنطن، إلى ترسيخ نموذج لامركزي يضمن حقوق المكونات القومية والثقافية في شمال وشرق سورية، في إطار دولة سورية موحدة ولكن غير مركزية. وما يزيد المشهد تعقيداً هو أن هذه المفاوضات لا تجري في فراغ، بل في ظل رفض شعبي متصاعد في القامشلي والمناطق التابعة لها لأي وصاية سياسية أو أمنية من دمشق، وهذا الرفض يتغذى على تجربة قوامها أكثر من خمسة عشر عاماً من الإدارة الذاتية، وشعور الأهالي بالكرامة السياسية بعد عقود من التهميش.
الأكثر حضوراً هنا في نقاشات الأهالي والنخب الثقافية والسياسية هو الموقف الأمريكي الحاضر الغائب الذي يتسم بـ”الغموض الاستراتيجي”. فواشنطن، التي توفر الحماية والدعم اللوجستي لقسد، لا تبدو مستعدة للذهاب بعيداً في تقديم مظلة سياسية تضمن اعترافاً دولياً بالإدارة الذاتية، لكنها أيضاً غير راغبة في تسليم هذه المناطق لدمشق أو لأنقرة. وهنا تكمن المفارقة: الولايات المتحدة تُمسك بخيوط اللعبة، لكنها تترك اللاعبين المحليين يواجهون تناقضاتهم دون إطار حاسم، وهذا ما يُبقي الوضع في حالة “تجميد سياسي”، لا يُنتج حلاً لكنه يمنع الانفجار.
مصير المفاوضات بين قسد والنظام السوري تقف اليوم على مفترق طرق: إما التقدم نحو تسوية سياسية تحفظ وحدة سوريا وتحترم التنوع السياسي والمجتمعي، وإما الانزلاق نحو مرحلة جديدة من التوتر، قد تكون أقل ضجيجاً من الحرب، لكنها أشد تعقيداً واستنزافاً. وهنا لا بد من الإشارة إلى ان الحاضنة الشعبية في هذه المنطقة تطالب قوات سورية الديمقراطية بالتمسك بالسلاح كضامن لحقوق الشعب الكردي.
المشهد اليوم يبدو أكثر وضوحاً في إن أي حل سياسي حقيقي لا يمكن أن يُبنى على الإملاء أو الاحتواء، بل على الاعتراف المتبادل والمصالح المشتركة، وبالتالي نجاح المفاوضات أو أي حل سياسي جديد لا يمكن أن يقوم على اتفاقيات رمادية (اتفاق 10 إذار) بل إلى مبادرة جديدة توازن بين وحدة الدولة وحقوق المكونات، وإلا فستبقى المفاوضات تدور في حلقة مفرغة، وقد تؤدي فشلها إلى تصعيد سياسي وربما أمني، خصوصاً إذا استغلت دمشق أو أنقرة أي فراغ أو ضعف أمريكي للضغط على الإدارة الذاتية.
الوجه الآخر من مستقبل هذه المفاوضات تتقاطع مع الوضع الداخلي للمدينة، وهو الوجه الأقل حضوراً في المشهد الإعلامي. فعلى مدار الأربعة عشر عاماً الماضية، زرت القامشلي أربع مرات، وفي كل زيارة، كنت ألمس مزيداً من الترهل في بنيتها، ومزيداً من الغياب للدولة، وتراجعاً حاداً في كل شيء: الكهرباء، والمياه، والتعليم، ومزيداً من الهجرة لأهلها، المستشفيات هنا تشبه غرفة إسعاف كبيرة: أطباء منهكون، وجدران تتساقط مثل مرضاه، حتى الزراعة عماد المنطقة صارت ضحية للجفاف السياسي قبل الطبيعي، والأدهى من ذلك هو الانهيار التام في منظومة الأخلاق الإدارية، إذ باتت الرشوة والمحسوبية والإتاوات اليومية العرف السائد في تسيير أمور الحياة. ومع كل زيارة كانت تُحدث جرحاً جديداً في ذاكرتي: شارعٌ يخبو، حيٌّ يفرغ، وجهٌ يختفي. لم تعد الحرب هنا قذائف ومسيرات تركية فحسب، بل صارت إهمالاً يتراكم كغبار الزمن على نوافذ البيوت المهجورة. لم تعد القامشلي التي عرفتها، بل تحولت إلى أرملة المدن كما يصفها أبن المدينة الكاتب والشاعر ملكون ملكون.
في زاويةٍ من ذاكرتي، تقف القامشلي كشاهد على زمنٍ ماض، كانت المدينة التي عرفتها تتنفس بتنوعها وعراقتها وأصالة مجتمعها الغني المتعايش بعيداً عن الصراعات السياسية والاجتماعية التي تغزو اليوم أحياء المدينة. ورغم كل هذا التدهور، تظل القامشلي نقطة ارتكاز مهمة في أي مشروع مستقبلي لسورية، فالمدينة تقع عند تقاطع حدودي حيوي مع تركيا والعراق، وتضم تنوعاً قوميّاً ودينيّاً قد يكون مفتاحاً لإعادة بناء صيغة وطنية جديدة إن استُثمر بطريقة عادلة. فالمدينة بنهاية المطاف لم تكن طرفاً في الحرب، لكنها دفعت ثمن كونها “خط تماس”، بين الإدارة الذاتية الكردية وحكومة دمشق السابقة والحالية!، وبين تركيا ومخاوفها الحدودية، وأيضاً بين قوى دولية تتصارع على خرائط لا تعرف حتى أسماء سكانها!
قد تكون القامشلي اليوم مدينة مدمّرة إدارياً متراجعة خدمياً، ومتأرجحة سياسياً، ولا تُستدعى إلا في عناوين الصحف ونشرات الاخبار، لكنها لا تزال تحتفظ بشيء عميق في روحها، فالمدن التي تحتضن التاريخ يصعب موتها بهذه الطريقة، لذلك لا تزال المدينة تُقاوم بأن تكون مجرد “ملف” على طاولة التفاوض.
فوق جسر الكرامة وسط المدينة، وقفت أمام احد المحال سرحت بتفكيري وانا انظر لما آل إليه حال نهر الجقجق من مصدر متدفق للمياه من هضبة طور عابدين في تركيا إلى بؤرة للتلوث والأمراض. سألني صاحب المحل: تريد شيئاً؟ فقلت: أريد ذاكرتي.. ثم التقطت حجراً أملسَ رميته في الماء، كأنني أرمي كل ما تبقى في داخلي من حنين!. القامشلي لم تمت بعد.. لكنها تكتب وصيتها كل يوم على جدران المجهول!