رأي

سلاح غزة الإستراتيجي!

كتب عبد السلام فاروق في صحيفة بوابة الأهرام.

تمر المعركة الضارية على غزة، كما كل الحروب التحررية الكبرى، بمنعطف خطير يتجاوز المواجهة العسكرية الميدانية إلى معركة السرديات والروايات. 

وفي خضم هذه العاصفة الإعلامية، تبرز قضية المصداقية الصحفية والإعلامية كسلاح إستراتيجي لا يقل أهمية عن السلاح الفعلي؛ فالحرب على غزة هي حرب وجود، ولكنها أيضًا حرب رواية.

حاولت الآلة الإسرائيلية، بدعم من مراكز قوى غربية، تحويل هذه المواجهة من قضية شعب يكافح من أجل تحرره من آخر نظام فصل عنصري في القرن الحادي والعشرين، إلى قضية “أمن” مزعوم لدولة تحتل وتقتل وتهجِّر منذ عقود. وفشلت؛ فشلت لأن جرائم الحرب المرتكبة يوميًا في غزة تتحدث عن نفسها، ولأن بطولة الفلسطينيين وصمودهم يحكيان قصة لا تحتاج إلى تزويق.

وهنا تكمن المفارقة الجديرة بالتحليل: لماذا يلجأ بعض “المتعاطفين” أو “المتحمسين” إلى تلفيق قصص وهمية، مثل تلك القصة المتداولة عن “تهريب أسرى إسرائيليين عبر مظاهرة ضد المقاومة”، في حين أن أرض غزة تنضح بعشرات الآلاف من القصص الحقيقية عن الصمود والتضحية والإبداع في مواجهة الموت؟

قوة الحقيقة
لطالما كانت القضية الفلسطينية، رغم كل مآسيها، قضية أخلاقية بامتياز في ضمير الإنسانية. وهذه المكانة الأخلاقية لم تكن لتبقى لولا التمسك بالحقيقة والصدق في نقل المعاناة والنضال. المصداقية هي رأس المال التراكمي للقضية عبر عقود. وأي تلاعب بهذا الرصيد هو هدر لهذه الثروة الأخلاقية في لحظة هي أحوج ما تكون فيها إلى كل موارد القوة. إنها معركة وجود، والوجود لا يُبنى على الأكاذيب.

عندما نروي قصة حقيقية عن طفل فقد أسرته تحت الأنقاض، أو عن طبيب يمارس عمله بلا أدوات، أو عن عائلة توزع آخر غذائها، أو عن مقاتل يصمد في وجه أعتى جيش في المنطقة، فإننا نقدم أدلة أخلاقية على عدالة القضية. أما عندما نختلق قصصًا، فإننا نقدم للخصم، مجانًا، ذريعة لتشويه النضال كله ووصمه بـ “الإرهاب” و”الكذب”. نحن هنا لا نتحدث عن خطأ صحفي عابر، بل عن إستراتيجية الخصم نفسه الذي يعتمد “صناعة الشك” لتقويض أي رواية تفضح جرائمه.

الحقيقة الجوهرية التي يجب أن تظل مسيطرة على الخطاب هي أن غزة تقاوم احتلالًا. هذه الحقيقة البسيطة والجلية تغطي على كل شيء. لا تحتاج إلى تبرير. أما صناعة البطولات الوهمية، فتشي، ربما دون وعي، بقبول منطق الخصم الذي يجبرك على إثبات “بطولتك” وفق معاييره. بينما البطولة الحقيقية تكمن في الصمود في وجه آلة إبادة لا تعرف الرحمة. تكمن في قدرة المجتمع على التنظيم الذاتي والتكافل رغم الدمار. تكمن في تلك الإرادة التي تقول “إما النصر أو الشهادة”. أليست هذه أعظم بطولة عرفتها الإنسانية؟

الدرس الأهم الذي يجب استخلاصه هو أن معركة غزة هي معركة طويلة النفس، ستستمر لأجيالٍ. والرواية التي ستروى للأحفاد يجب أن تكون نقية، قوية، صادقة، كصخرة صمود غزة. لا مكان فيها للقصص الهشة التي قد تنهار عند أول اختبار للحقيقة.

السردية الحقيقية التي يجب أن نتشبث بها هي سردية الشعب الذي حوصر وقُطِّع وأُجِيع، ولم يستسلم. سردية المقاومة التي استطاعت، من بين الأنقاض، أن تفرض شروطها على واحدة من أقوى الجيوش في العالم. سردية أن مخابرات الأرض كلها، بكل تقنياتها، عجزت عن العثور على أسراها في أرض لا تتجاوز 365 كيلومتراً مربعاً.

هذه هي القصة التي تزلزل عروش الصهيونية العالمية. هذه هي الحقيقة التي لا تحتاج إلى تزويق. وهذه المصداقية، مع الصمود، هما السلاحان اللذان لا تقهرهما كل صواريخ العالم. فلنحرصْ عليهما.

بالتأكيد لا يمكن فهم أهمية المصداقية في معركة غزة بمعزل عن تحولات بنيوية في طبيعة الصراع نفسه. فما نشهده ليس مجرد حرب تقليدية، بل تحول في نموذج القوة: من قوة الدبابات إلى قوة السردية، ومن هيمنة السلاح إلى هيمنة الرواية. وفي هذا التحول، تمتلك القضية الفلسطينية رأسَ مالٍ رمزياً وأخلاقياً هو الأقوى في العالم المعاصر.

كل قصة حقيقية نرويها اليوم هي وثيقة أدلة مستقبلية في المحاكم الدولية، ورهانٌ في مفاوضات سياسية قادمة. بينما كل قصة مفتعلة ستتحول إلى ثغرة في الدرع الأخلاقي للقضية. عندما نثبت أننا أحرص من خصومنا على الحقيقة – رغم كل ما نملكه من أسباب موضوعية للغضب والثأر – فإننا نكسب المعركة القانونية والدبلوماسية قبل أن تبدأ. إنه “جيوبوليتيك الضعفاء” الذي يحول الأخلاق إلى سلاحٍ إستراتيجيٍ.

قد يجادل البعض بأن نشر معلومات مضللة يشوش على العدو. وهنا يجب التمييز بين التضليل العسكري المشروع -وهو فن من فنون الحرب- وبين تلفيق القصص الإنسانية والسياسية. الأول ضرورة تكتيكية، والثاني انتحارٌ إستراتيجيٌ. فبينما يموت التضليل العسكري في ساحة المعركة، تبقى القصص المفتعلة سمعة تلاحق القضية لعقود.

هنا نصل إلى لب الإشكالية، وهي أن الثورة الحقيقية تنتج خطابًا مختلفًا عن خطاب الدعاية. الخطاب الثوري يبني وعيًا، بينما الخطاب الدعائي يبني أوهامًا. عندما نروي كيف يحافظ الناس على كرامتهم وإنسانيتهم تحت القصف، فإننا نقدم نموذجًا إنسانيًا. أما عندما نختلق قصصًا خارقة، فإننا نعود إلى منطق الدعاية الفارغة. والفارق بينهما هو الفارق بين حركة تحرر واعية وحركة تلهث وراء الإعجاب المؤقت.

وهناك بعد نفسي عميق في هذا السياق، هو أن المجتمع الذي يبني وعيه على الحقائق، حتى لو كانت مريرة، يبني صمودًا نفسيًا حقيقيًا. بينما المجتمع الذي يعيش على الأوهام ينهار عند أول صدمة. غزة تقدم نموذجًا فريدًا للصمود لأنها تواجه واقعها بكل قسوته، لا لأنها تهرب منه إلى الخيال.

في النظام العالمي الجديد، حيث فقدت كثير من المنظمات الدولية مصداقيتها، وأصبحت وسائل الإعلام الغربية أداةَ حربٍ، تتحول المصداقية إلى سلعةٍ نادرةٍ وثمينةٍ. الفلسطينيون، رغم كل ما يعانونه، أصبحوا اليوم مصدِّرينَ للحقيقة إلى العالم. هذه مكانة لم تحققها كل الدبلوماسيات مجتمعة.

إن اختزال المعركة في سباق على “الإعجابات” والمشاهدات هو خيانة لجوهرها. فالمعركة الحقيقية هي عن أي رواية ستبقى، وأي ذاكرة ستتوارثها الأجيال. وغزة، بحكمتها وصمودها، تثبت يوميًا أنها لا تحتاج إلى أكاذيبنا “الطائشة” لتكتب أسطورة تحررها. بل تحتاج منا فقط إلى أن نكون أمناء على رواية نضالها.

أخبار مرتبطة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى