سباق وجودي بين الأطباء والذكاء الاصطناعي.
يحقق الذكاء الاصطناعي نمواً سريعاً ومفاجئاً في المجال الطبي عامة، وفي وسائل التشخيص بشكل خاص، إذ تطورت الدراسات والأبحاث في هذا المجال للمساهمة بمزيد من الفاعلية في الرعاية الصحية وفي مكافحة الأمراض بدقة فائقة وسرعة إضافية.
ويلعب الذكاء الاصطناعي دوراً في الكشف المبكر عن الأمراض مع تسهيل سير العمل والمساعدة على قراءة البيانات لتحديد العلاجات المناسبة بأسرع وقت ممكن، لكن هل أصبح من الممكن الاعتماد عليه بالمطلق لتشخيص دقيق لا مجال للخطأ فيه؟
هنا، لا بد من التمييز بين التطبيقات المتوافرة التي قد تكشف عن مشكلات صحية، والتقنيات الطبية المتطورة التي تعتمد على الذكاء الاصطناعي فتساعد الطبيب في التشخيص.
في هذه المرحلة بلغ الذكاء الاصطناعي مراحل متطورة حتى أصبح دوره مهماً في الرعاية الطبية وفي تشخيص الأمراض. لذلك، اليوم أكثر من أي وقت مضى، تبرز الهواجس من تدخله الزائد والعشوائي في هذا المجال، لما لذلك من تداعيات على سلامة المرضى. فهل تتمتع التقنيات التي تعتمد عليه بالدقة المطلوبة بشكل يمنع الأخطاء التي قد تشكل تهديداً لصحة المرضى؟
دقة فائقة
لا يخفى على الأطباء أن نطاق الذكاء الاصطناعي بات واسعاً وتكثر التقنيات التي تعتمد عليه، خصوصاً في تشخيص الأمراض المرتبطة بالجهاز الهضمي والأمعاء، ومنها المنظار الذي يعتمد على تلك الخاصية للتعرف إلى أمراض بمزيد من الدقة.
وفق الطبيب الاختصاصي في أمراض الكبد والجهاز الهضمي في مستشفى أوتيل ديو دو فرانس بلبنان، سيزار ياغي، يستخدم المنظار للكشف عن ثآليل (عدوى) قد تتطور إلى سرطان بدقة فائقة، لافتاً إلى أن الأطباء يكتسبون مع الوقت الخبرة اللازمة للتعرف إلى الثآليل التي قد تصبح سرطانية بحسب شكلها.
ويضيف ياغي “مع تطور وسائل التشخيص، وبفضل الذكاء الاصطناعي، أصبح من الممكن التعرف إليها بمزيد من الدقة، فتنذر بضرورة استئصالها بوجود احتمال تحولها إلى سرطان، ففي الواقع، هي تقنيات متطورة تعتمد على الذكاء الاصطناعي وتساعد على التمييز بسرعة كبرى بالمقارنة مع الإنسان”.
ومن المؤكد أن التقنيات التي تعتمد على الذكاء الاصطناعي تشكل إضافة إلى خبرة الطبيب وتساعد على تحسين جودة الفحص، لكونها تساعد للطبيب ليكون التحليل ممكناً بسرعة كبرى، وعندها تشخص المشكلة الصحية بسرعة ودقة، بوجود الطبيب حكماً.
يشير ياغي إلى أن “هذا المجال في تطور سريع فعلاً، لكن في كل الحالات يبقى وجود الطبيب ضرورياً، والتقنيات التي تعتمد على الذكاء الاصطناعي لا يمكن أن تحل محله، ويقتصر دورها على مساندته لمزيد من السرعة والفاعلية في التشخيص وفي وصف العلاج المناسب، ودورها في التشخيص يقتصر على التمييز والتحديد ولا يصل إلى حد التدخل”.
وحسم بأنه “إذا كان رأي الطبيب مخالفاً لما يطرحه الذكاء الاصطناعي، يبقى رأي الطبيب المعيار والأساس، والقرار النهائي له، وينطبق هذا أيضاً على الأشعة، فما قد يراه الطبيب في الصور الشعاعية يمكن أن يتلقاه الذكاء الاصطناعي وينذر بوجود مشكلة ما. حتى الآن ما يظهره الذكاء الاصطناعي هو ما يمكن أن يراه الطبيب لا أكثر، ويبقى عبارة عن أداة تساعد الطبيب ولا تحل محله أبداً”.
ممنوع الاستخفاف
لا تستند التطبيقات المتوافرة التي يسوق لها إلى أسس علمية، بالتالي لا يمكن الاعتماد عليها. وهنا يميز ياغي بين الطب والطب البديل الذي لا يستند إلى أسس علمية، وتدخل عملية التعرف إلى الأمراض بهذه الطرق وكشفها، في إطار ما يسمى الطب البديل.
ويرى أنه “في هذه التطبيقات ثمة خوارزميات معينة، وعندما يدخل الشخص أعراضاً معينة يعانيها في تطبيق، يفتح المجال لأكثر من 100 احتمال في التشخيص، في المقابل، يستند الطبيب الذي يشخص مرضاً إلى الفحص السريري، وإلى مجموعة من الأسئلة يطرحها على المريض، وإلى عدد من الفحوص كالمنظار والصور الشعاعية، مما يسمح بتشخيص دقيق لكل حالة على حدة”.
وتابع “من المفترض بهذه التطبيقات أن تتبع العملية نفسها في الخوارزميات التي فيها، لكن التشخيص على هذا الأساس لا يزال معقداً. لذلك، حتى اللحظة لا يعد التشخيص من خلال التطبيقات التي تعتمد على الذكاء الاصطناعي بالدقة المطلوبة، مهما بدت متطورة”.
وقال “قد يقتصر دورها على لفت نظر المريض إلى وجود مشكلة صحية خطرة يعانيها ليستشير الطبيب، لكنها لا تحل محل الطبيب ولا محل الفحص السريري الذي يجريه في عيادته. فكيف للمريض أن يدخل إلى التطبيق كافة المعلومات والأعراض والعناصر الضرورية كاملة لتشخيص دقيق؟ ثمة تدخلات سريرية وطبية عديدة لا تسمح بأن يعمل الذكاء الاصطناعي باستقلالية”.
في المقابل، ثمة تطور حاصل في مجال الطب من بعد كالذي تطور بسبب الحاجة إليها في فترة جائحة كورونا، إلى أن تحول بعدها إلى روتين بوجود مغتربين يعتمدون على طبيبهم في بلد آخر، وغيرها من الظروف.
في هذا المجال، لعب الذكاء الاصطناعي دوراً مهماً بشرط التوجيه من الطبيب، إذ يساعد الذكاء الاصطناعي الطبيب على إجراء الفحص من بعد على أساس المعلومات التي يحللها بكثير من الدقة، كما تبرز أهميته في علم الأمراض الوراثية، وهذه التقنيات تساعد أيضاً على تعزيز جودة المتابعة الطبية، وتحقق إنجازات في الأشعة كالصورة الشعاعية للثدي والصدر والإسكانر.
بيانات مهولة
في المقابل، يعتبر المتخصص في التحول الرقمي فريد خليل أن للذكاء الاصطناعي أهمية في تحليل عدد هائل من البيانات من كافة دول العالم ولمختلف الأشخاص والحالات، مما يفوق ما قد يقابله طبيب من حالات في خبرته الطبية خلال سنوات، إذ يحتاج الطبيب إلى ممارسات طبية وسريرية عديدة حتى يكتسب خبرة.
ويوضح خليل أن “الطبيب يفترض به تناول عدد كبير من الحالات خلال سنوات طويلة من التعلم والخبرة والتشخيص والممارسة، وهنا تكمن أهمية الذكاء الاصطناعي في مجال الرعاية الطبية، إذ يتميز كل من تطبيق من تطبيقات الذكاء الاصطناعي بمجال معين في الطب كالتشخيص والمراقبة واكتشاف الأدوية والتصوير الشعاعي”.
ويمضي في حديثه، “من أحدث التطبيقات Anura الذي يكشف من خلال صورة سيلفي، أي مشكلة في وظائف حيوية في الجسم على أساس أنماط تدفق الدم في الوجه كمعدل تسارع دقات القلب، ومستوى ضغط الدم، والمشكلات المرتبطة بالصحة النفسية، ومؤشر كتلة الجسم، وخطر الإصابة بمشكلات صحية كالذبحة القلبية ومعدل السكر في الدم”.
وتتوافر تطبيقات قادرة، بالاستناد إلى صورة للعينين، على تشخيص اعتلال شبكة العين بسبب السكري، وتلك القادرة على كشف السكتة الدماغية.
بينما يساعد تطبيق skin vision على تحديد مشكلات البشرة والعناية الفضلى لها، وما إذا كان الشخص عرضة للإصابة بسرطان الجلد. أما تطبيق binah.ai فيسمح بفحص ضغط الدم وكل ما له علاقة بالقلب والأوكسجين بالدم وتسارع دقات القلب، فيتابعها المريض من خلال التطبيق، مع التواصل مع طبيبه ليعلمه بكل جديد عند حصول مشكلة، فيكون التدخل سريعاً من دون تأخير. وبمساعدة الذكاء الاصطناعي، كان من الممكن كشف سرطان الثدي قبل 30 يوماً من تطوره.
ويرى خليل أن ما حدث “تطور سريع لمجال برز منذ عام واحد فقط، وتزيد الاستثمارات فيه والأبحاث، فقد يساعد الذكاء الاصطناعي في تشخيص الأمراض في مرحلة مبكرة، مما يسمح باستباق كارثة، لكن ليست أهميته في إدخال أعراض في التطبيق لتشخيص المشكلة فحسب، بل في التصوير المقطعي الذي بلغ مراحل متطورة من التقدم، والتصوير بالرنين المغناطيسي، والأشعة لمساعدة الأطباء على التشخيص. ومن التطبيقات المهمة تلك التي تساعد في تطوير الأدوية الذي يتطلب عادة وقتاً طويلاً، حتى إنها قد تساعد في التجارب السريرية للأدوية”.
وللذكاء الاصطناعي دور لا يمكن الاستهانة به، والمتابعة والمراقبة للمريض ممكنة بفضل الذكاء الاصطناعي، لكن ذلك كله لا يلغي وجود الطبيب ولا يسمح بأن يحل محله، بل وجوده مهم لتسريع عملية تشخيص الأمراض، عندما يزود الطبيب تقنية الذكاء الاصطناعي بالمعلومات التي لديه، حتى تحللها وتعطي الجواب اللازم لوصف العلاج المناسب.
ببساطة فإن دور الذكاء الاصطناعي هنا في التحليل، وجمع المعلومات، وإعطاء الجواب، بتوجيه من الطبيب، لكن هنا يشدد خليل على أهمية أن يطور الطبيب مهاراته في هذا المجال ليحسن استخدام أدوات وتطبيقات الذكاء الاصطناعي ويستفيد منها.
ويبقى هذا الموضوع مثيراً للجدل حتى الآن، وبالنسبة إلى الأطباء لا يمكن أن تحل أدوات الذكاء الاصطناعي محل طبيب الذي يبقى وحده قادراً على التشخيص الدقيق للحالات التي يختلف كل منها عن الآخر، فلكل حالة طبية خصوصيتها، ولا يمكن للتطبيقات أن تكون حاسمة في تشخيص الحالات، وإن كانت قادرة حالياً على تسريع عملية التشخيص.