«ساندرز» والانقسام الحزبي
![](https://raiseyasi.com/wp-content/uploads/2023/02/جو-بايدن.jpg)
كتب أكاديمي أميركي بول كروجمان في صحيفة “نيويورك تايمز”:
قلما تُحدث الخطب السياسية فرقاً كبيراً، بما في ذلك خطابات «حالة الاتحاد»، غير أنها يمكن أن تكون دليلاً مفيداً لفهم المشهد السياسي.
ومن الواضح أن الرئيس بايدن كان شرساً نوعاً ما يوم الثلاثاء، إذ ضايق «الجمهوريين» بتلميح مفاده أن عدداً منهم يهدد برنامجي «ميدي كير» و«الضمان الاجتماعي» – وهو واقع الحال بالفعل. تكفلت بإيصال الرد «الجمهوري» حاكمةُ ولاية أركانسو «سارة هوكابي ساندرز» التي قالت إن الولايات المتحدة منقسمة بين حزبين: حزب يركز على مواضيع الحياة اليومي التي تهم المواطنين الأميركيين العاديين، بينما الحزب الآخر مهووس بخوض حرب ثقافية. وهذا صحيح أيضاً. ولكن يبدو أنها خلطت بين الحزبين – ذلك أن «الجمهوريين» هم من يشنون الحروب الثقافية وفقدوا التواصل مع انشغالات الأميركيين العاديين، وليس «الديمقراطيين». أولاً، في ما يتعلق بـ«ميدي كير» و«الضمان الاجتماعي».
فعندما قال بايدن إن «بعض الجمهوريين يريدون إنهاء ميدي كير والضمان الاجتماعي»، قوبل بهتافات «غير صحيح!». والحال أنه العام الماضي نشر سيناتور فلوريدا ريك سكوت، رئيس «اللجنة الجمهورية الوطنية لمجلس الشيوخ»، «خطة لإنقاذ أميركا» وتضمنت بشكل صريح ضمن إصلاحاتها «إنهاء صلاحية كل التشريعات الفيدرالية في ظرف 5 سنوت».
صحيح أن البرنامج الذي تنقضي صلاحيته يمكن تجديده، غير أن ما قاله بايدن كان صحيحاً – ثم ما أدراك أن الحزب «الجمهوري» المعاصر سيصوّت بالفعل لصالح الإبقاء على «الضمان الاجتماعي» و«ميدي كير» كما هما الآن؟ ثم هناك مسألة الأرقام. فـ«الجمهوريون» تعهدوا بالقضاء على عجز الميزانية في غضون 10 سنوات، والحال أنه إذا لم ترفع الضرائب – وهو ما يعارضونه بشدة – فإن ذلك سيكون ضرباً من ضروب المستحيل من دون تقليص جذري لـ«ميدي كير» و«الضمان الاجتماعي». ثم علينا ألا ننسى أن هذين برنامجين خاصين بالمسنّين، برنامجين مركزيين بالنسبة للتخطيط المالي طويل الأمد للأميركيين، والأساس الذي تقوم عليه آمال معظم الناس في تقاعد كريم ومريح. ووضعهما على لوح التقطيع كل خمس سنوات من شأنه أن يخلق قدراً كبيراً جداً من القلق. ومن هنا أتى الرد الجمهوري الهيستيري على كلام بايدن، ولكن كلامه ذاك كان صحيحاً تماماً. ولكن لنتحدث الآن عن رد ساندرز على بايدن، والذي كشف عن أمور كثيرة. خطاب «سارة ساندرز» شكّل هجوماً قوياً على ما بات يعرف بالـ«وُنكس»، والمقصود به الوعي بالمشاكل الاجتماعية والسياسية مثل الظلم الاجتماعي والتمييز العنصري والتنبيه إليها.
والواقع أن هذا بات نهجاً «جمهورياً» مألوفاً هذه الأيام، وما قد يتوقعه المرء بالضبط من خطاب في «مؤتمر العمل السياسي المحافظ» مثلاً، لولا أن هذا لم يكن خطاباً من «مؤتمر العمل السياسي المحافظ»، بل كان موجهاً للأميركيين بشكل عام ولمعارضة رئيس الولايات المتحدة. ولكن مهلاً، هناك ما هو أسوأ من ذلك. فساندرز تقول على ما يبدو إن السياسات التي تسعى لمعالجة قضايا مثل الظلم الاجتماعي والتمييز العنصري كانت مسؤولةً عن «ارتفاع أسعار الغازولين» و«رفوف البقالة الفارغة». ولكن، كيف يستقيم ذلك؟ ثم كيف تسببت «نظرية العرق النقدية» في ارتفاع عالمي في أسعار خام النفط، والذي أدى بدوره إلى زيادة الأسعار في محطات الوقود عبر العالم؟ وكيف أدى ذلك إلى مشاكل في سلاسل التوريد وتسبب في نقص في حاويات الشحن على صعيد العالم؟
ثانياً، إن السياسي الذي كان على اتصال مع انشغالات الناس الحقيقية يدرك أن الأمثلة التي استخدمتها ساندرز لإبراز إخفاقات بايدن السياسية تجاوزت مدة صلاحيتها. فأسعار الغازولين ارتفعت بالفعل لبعض الوقت، ووصلت إلى حدود 5 دولارات للغالون في الصيف. ولكنها انخفضت بشكل جذري منذ ذلك الحين. كما أن الشكوى بشأن رفوف البقالة الفارغة قديمةٌ ومتجاوَزةٌ. فصحيح أن سلاسل التوريد عانت من فوضى واضطرابات كبيرة قبل عام، ولكن الضغوط خفّت كثيراً منذ ذلك الحين، وإذا كانت بعض المواد ما زالت نادرة (فقد ساهمت إنفلونزا الطيور في حدوث نقص في البيض، وإن كانت الأسعار أخذت تتجه نحو الانخفاض على الأرجح)، فإن الشكوى من الأرفف الفارغة مبتذلة في هذه المرحلة.
بعبارة أخرى، إن نسخة ساندرز من المشاكل التي تواجه الأميركيين العاديين يبدو أنها لا تقوم على أي فهم مباشر لحياة الناس، وإنما على تقارير قناة «فوكس نيوز» التي تروّج للأشياء السيئة في عهد بايدن ولا تشير أبداً إلى الأشياء حين تتحسن من جديد.
وحتى أكون واضحاً، هناك أشخاص من اليسار ينخرطون في حروب ثقافية أيضاً، وبعضهم يمكن أن يكونوا مزعجين حتى لليبراليين الاجتماعيين أنفسهم. غير أن قلة قليلة منهم فقط يمتلكون سلطة مهمة، ثم إنهم لا يحكمون الحزب «الديمقراطي»، الذي ليس حبيس عالم ذهني مغلق، لا يتأثر بالحقائق المزعجة، وسكانه يتواصلون بكلمات لا يفهمها أحد غيرهم. وبالمقابل، فإن «الجمهوريين» يعيشون بالفعل في هذا العالم، وما أظهرته «ساندرز» هو أنهم لا يستطيعون مغادرة ذاك العالم حتى حين يفترض أن تكون لديهم حوافز سياسية قوية ليبدوا مثل أشخاص عاديين ويتظاهروا بأنهم يكترثون بهموم الأميركيين العاديين وانشغالاتهم.
إن الآراء المذكورة في هذه المقالة لا تعبر بالضرورة عن “رأي سياسي” وإنما تعبر عن رأي صاحبها حصرا