رأي

ساركوزي وعدالة القدر

كتب محمد خليفة في صحيفة الخليج.

أخطر كارثة تواجهها البشرية تلاشي العدالة، حينها تضطرب الأمور، ويقوى الأشرار الذين يلبسون الحق بالباطل، حتى يزاحم العدل ويزحزحه، فيسود الباطل في عالم الظلمات.
وتستمر الحياة منذ فجر التاريخ في هذه السردية التي لا تتغير، صراع دائم بين الحق والباطل، أيهما يسود وتكون له الكلمة والغلبة! إن أغلب فترات التاريخ الإنساني، في كافة المجتمعات دارت في فلك هذا الصراع تارة ينتصر الباطل، وينصب أشرعته، وتغيب العدالة، وتنتحر القيم، وينسى الناس معنى العدالة، مستعيضين عن نقيضها، ومع فقدان العدالة يفقد البشر إنسانيتهم.
أما الطغاة الذين يؤسسون لهذا العالم، فيفسدون في الأرض، ويخضّبون التاريخ الإنساني باللون الأحمر، من خلال إشعال الحروب، ونشر الدمار. وليس أجمل أن تسود العدالة حيث يتمتع الإنسان بكافة حقوقه، ويعاقب كل مذنب بما اقترفت يداه، غير أن تطبيق العدالة يبدو أمراً صعباً للغاية حتى في أكثر الدول تقدماً، فليس من السهل جمع الأدلة، لا سيما عندما يتعلق الأمر بشخصية كبرى لها تأثير في مجريات الأحداث. وتبدو قضية الرئيس الفرنسي الأسبق نيكولا ساركوزي واحدة من القضايا التي طال التحقيق فيها منذ أعوام، حتى تم تطبيق العدالة وصدر الحكم الأسبوع الماضي.
كان ساركوزي وزيراً للداخلية في عهد الرئيس جاك شيراك، وكان يطمح للترشح إلى الرئاسة لكنه كان بحاجة إلى الدعم المادي لحملته الانتخابية، فأوفد أقرب مساعديه وهما: الوزيران السابقان كلود غيان وبريس هورتفو، إلى ليبيا عام 2005 والتقيا مع عبدالله السنوسي مدير المخابرات الليبية آنذاك. وتم عقد اتفاقية بقيمة 50 مليون يورو لتمويل حملة ساركوزي، ووصلت الأموال إلى ساركوزي عبر رجل الأعمال الفرنسي اللبناني زياد تقي الدين الذي اعترف لوكالة التحقيقات الفرنسية «ميديا بارت» بأنه سلّم حقائب مملوءة بالنقود من طرابلس إلى وزارة الداخلية الفرنسية في عهد ساركوزي ونجح مخطط ساركوزي ووصل إلى منصب الرئاسة عام 2007، وعندما بدأت الثورات الملونة في المنطقة العربية ووصلت إلى ليبيا، وجدت الولايات المتحدة الفرصة مناسبة لإسقاط القذافي، فاستصدرت من مجلس الأمن، قراراً يحمل الرقم 1973، وينص القرار على «وقف فوري لإطلاق النار في ليبيا، بما في ذلك إنهاء الهجمات الحالية ضد المدنيين»، والتي قال القرار: «إنها قد تشكل جرائم ضد الإنسانية، وفرض منطقة حظر جوي على ليبيا، وتشديد العقوبات على نظام معمر القذافي ومناصريه».
وكان ساركوزي قد نسي معروف القذافي له، وأصبح من أكثر المتحمسين لتوجيه ضربة عسكرية لليبيا تحت مسمى «نصرة الشعب الليبي»، وبدأ التحالف الذي كان يتألف من 19 دولة تدخلاً عسكرياً في ليبيا لتنفيذ قرار مجلس الأمن سالف الذكر. وتولت فرنسا قيادة العمليات وأطلقت القوات البحرية الأمريكية والبريطانية ما يزيد عن 110 صواريخ كروز «توماهوك»، وفرضت قوات التحالف حصاراً بحرياً، وشنت الطائرات غارات جوية على دبابات ومركبات الجيش الليبي. وبلغ عدد الغارات الجوية التي نفذها طيران الحلف، 26 ألفاً و500 غارة، حتى تم تحطيم الجيش الليبي.
وفي تلك الأثناء نشرت وكالة الأنباء الليبية خبراً يذكر أن الدولة الليبية حوّلت ملايين اليوروهات سراً إلى حملة ساركوزي الانتخابية عام 2007. وقد اطلع الادعاء العام الفرنسي على هذا الخبر وفتح تحقيقاً سرياً وفي عام 2012، فشل ساركوزي في تجديد حكمه، فقد خسر انتخابات الرئاسة أمام فرانسوا هولاند، فأصبح خارج السياسة، وعند ذلك تم تحريك الدعوى العامة بحقه، ونشرت وكالة التحقيقات الفرنسية «ميديا بارت» ما وصفته بمذكرة استخباراتية ليبية تشير إلى اتفاقية تمويل بقيمة 50 مليون يورو. وقد ندد ساركوزي بالوثيقة وقال، إنها مزورة، ورفع دعوى قضائية بتهمة التشهير. وفي عام 2021، أُدين ساركوزي بالفساد في محاكمتين منفصلتين، وحُكم عليه بالسجن 3 سنوات، اثنتان منهما مع وقف التنفيذ، وواحدة في السجن، قيد الاستئناف. وكان ساركوزي قد خسر استئنافاً في مايو(أيار) وفي سبتمبر (أيلول) أُدين بالتآمر الجنائي بشأن «اتفاق الفساد» مع معمر القذافي، وحُكم عليه بالسجن 5 سنوات، بالإضافة إلى غرامة قدرها 100 ألف يورو.
واعتباراً من 21 أكتوبر (تشرين الأول 2025، بدأ ساركوزي تنفيذ عقوبته في سجن «لا سانتيه»، في الحبس الانفرادي، وتبدو هذه المحاكمة من أطول المحاكمات وأغربها، فلأول مرة يحكم على رئيس فرنسي بالسجن، لكن المحاكمة استغرقت زمناً طويلاً، وفي النهاية تحققت العدالة وقبع ساركوزي في السجن لينفذ عقوبة جنائية مدتها 5 سنوات، وتحقق بذلك مبدأ «الجزاء من جنس العمل»، فقد أبى القدر إلا أن ينتصف من ساركوزي لأنه غدر بالرئيس القذافي الذي أوصله إلى سدة الحكم، وظن القذافي الذي فرّط في أموال شعبه أن ساركوزي قد يحفظ صنيعه، لكنهما خسرا معاً، أحدهما خسر حياته والثاني خسر حريته.

أخبار مرتبطة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى