زيارة جوزيف عون التاريخية للجزائر: مبادرة لبنانية أم مناورة فرنسية

كتب د. جيرار ديب في صحيفة العرب.
زيارة عون إلى الجزائر تجمع بين التنافس الدولي على لبنان، ومغازلة فرنسا لجسور فقدتها في شمال أفريقيا.
في زمن التحولات الإقليمية السريعة، لا تمر زيارة رسمية دون أن تحمل ما هو أبعد من الكلمات البروتوكولية والصور التذكارية. من هنا، تبدو زيارة الرئيس اللبناني جوزيف عون إلى الجزائر خطوة تتجاوز مجرد إحياء العلاقات الثنائية، إلى ما هو أعمق وأدق، خصوصا في توقيتها السياسي وتركيبة الوفد المرافق له.
الرئيس عون، الذي يُعد أول رئيس لبناني يزور الجزائر منذ أكثر من ربع قرن، حمل معه ملفات التعاون، وأعاد فتح دفاتر العلاقات القديمة بين بيروت والجزائر، والتي شابها في السنوات الأخيرة غبار الخلافات، لاسيما على خلفية “أزمة الفيول المغشوش” مع شركة سوناطراك. لكن رمزية الزيارة تتجاوز المصالح الثنائية المباشرة، إلى مسرح أكبر تُعاد فيه رسم خطوط النفوذ والتأثير في المنطقة.
اللافت أن الرئيس عون لم يزر الجزائر وحده، بل اصطحب معه شخصية أثارت الانتباه: علي حمية، الوزير السابق والمقرّب من حزب الله. مشاركة حمية في الوفد الرسمي لا يمكن فصلها عن الدور المتنامي للحزب في الشأن اللبناني، ولا عن محاولات فرنسا المتكررة لإبقاء قنواتها مفتوحة مع الحزب تحت شعار “الواقعية السياسية”.
ففي وقت تسعى فيه باريس لإعادة تثبيت أقدامها في بيروت، وتقديم نفسها كوسيط مقبول من مختلف الأطراف، يبدو أن العلاقة اللبنانية – الجزائرية قد أصبحت أيضا أداة فرنسية للالتفاف على الضغوط الأميركية المتزايدة، والتي لا تُخفي هدفها بتقليص نفوذ حزب الله وتحجيم الدعم الدولي له.
المثير في التوقيت، أن زيارة عون إلى الجزائر جاءت بعد أيام على استقبال رئيس الحكومة نواف سلام في قصر بعبدا، وهو العائد لتوّه من زيارة إلى باريس. وفي هذا التزامن ما يدعو إلى التساؤل: هل كانت لفرنسا يد في ترتيب “تتابع الزيارات” بين سلام وعون، بحيث تُستكمل رسالة باريس للبنان عبر بوابة الجزائر؟
فرنسا التي تخوض مواجهة صامتة مع الولايات المتحدة في ملفات عديدة بالمنطقة، بدءًا من أفريقيا وحتى شرق المتوسط، تجد نفسها اليوم مضطرة إلى البحث عن حلفاء جدد، أو على الأقل، استعادة شركاء قدامى فقدتهم في جولات الصراع الإقليمي. والجزائر، التي تمرّ علاقتها بفرنسا بتوتر متصاعد، تمثل في هذا السياق نقطة ارتكاز يمكن البناء عليها.
تقرأ باريس ما يحدث في لبنان، كما في الجزائر، من زاوية أوسع تتعلق بالحفاظ على ما تبقى من نفوذها التاريخي في المنطقة. فبينما تعمل واشنطن على تطويق حزب الله، وتدفع بصفقة التمديد لقوات اليونيفيل نحو التعديل وتقليص الصلاحيات، تحاول فرنسا الالتفاف على هذه الخطوات من خلال تقديم “مظلّة تهدئة”، تجمع من جهة بين الواقعية السياسية، ومن جهة أخرى بين مصالح شركاتها الكبرى، كـ”توتال” التي تنتظر استئناف أعمال التنقيب عن الطاقة في لبنان.
ويبدو أن فرنسا تنظر إلى العلاقة بين لبنان والجزائر كممر يمكن أن يربط مصالحها في كلا البلدين. فلبنان يمثّل نقطة ارتكاز سياسية واقتصادية، بينما تشكّل الجزائر بوابة مهمة في شمال أفريقيا، وتحتاج باريس إلى إعادة وصل ما انقطع معها، لاسيما بعد التوتر الدبلوماسي الأخير الذي دفع الجزائر إلى استدعاء القائم بأعمال السفارة الفرنسية مرتين خلال أقل من أسبوع.
في قراءة أكثر واقعية، يمكن القول إن باريس لم تعد تملك رفاهية إدارة الدبلوماسية التقليدية. إنها تبحث عن شركاء “قادرين على التحرك” بدلا منها، ولبنان بما فيه من تنوّع سياسي ومرونة حزبية، يمثل “منصة” يمكن أن تُستثمر. وها هو الرئيس الفرنسي إيمانويل ماكرون يطبّق مبدأ “حليف حليفي هو حليف لي”، من خلال تشجيع التقارب اللبناني – الجزائري على أمل أن يعيد ذلك فتح باب العلاقة مع الجزائر من نافذة بيروت، بعد أن أُغلق الباب من الجزائر العاصمة.
في الشكل، حملت الزيارة اللبنانية الكثير من الوعود: تجديد عقود “الفيول”، إطلاق رحلات جوية، مشاريع إعمار، وتعاون اقتصادي واستثماري، لكن في المضمون تبقى الأسئلة مطروحة: هل تمتلك الجزائر إرادة الدخول في لعبة الاصطفافات الإقليمية؟ وهل تنجح فرنسا فعلا في استثمار هذا الخط الجديد لإنعاش حضورها الإقليمي أم أن كل ذلك مجرد محاولة فرنسية للنجاة من موجة الإقصاء الأميركية؟
المشهد لا يزال ضبابيا، لكن ما هو مؤكد أن زيارة الرئيس عون إلى الجزائر لم تكن زيارة بروتوكولية عابرة، بل جزءا من تحركات أكثر تعقيدًا، تجمع بين التنافس الدولي على لبنان، ومغازلة فرنسا لجسور فقدتها في شمال أفريقيا.
وفي النهاية تبقى الحقيقة الوحيدة أن السياسة لا تعرف الفراغ، وكل تقارب بين بيروت والجزائر لا بد أن يمر بطريقة أو بأخرى من باريس.