رأي

زمن التحولات

كتب سمير العيطة في صحيفة الشروق.

من اللافت كيف تحوّل المجتمع اليهودى المقيم فى إسرائيل نحو دعمٍ واسعٍ لسياسات «القيصر نتنياهو» فى هذه المرحلة الثانية من حربه، على لبنان الآن، أكثر من هذا الدعم فى المرحلة الأولى التى كانت تستهدف غزّة وبعض المخيّمات الفلسطينيّة فى الضفة الغربية. وفى المقابل من اللافت كيف أنّ المجتمعات العربيّة زاد انقسامها بشكلٍ أكبر اليوم بحيث أصبح صمتها فاضحا أمام الإبادات والتهجير والتدمير، وحيث تبرز أصواتٌ ضمنها تعلو بقوّة كى تساند حرب «القيصر»، بحجّة النكاية بإيران وحزب الله وحماس.
‎وفى هذا السياق، يكفى رصد الأغانى والهتافات، الواضحة بعنصريّتها ضد الفلسطينيين والعرب، والتى يردّدها مناصرو الفرق الرياضيّة الإسرائيليّة، ومراجعة خلفية الوزراء فى الحكومة الإسرائيلية، لمعرفة التحوّلات الكبرى التى شهدها المجتمع الإسرائيلى فى السنوات الأخيرة لجهة الاستيطان والفوقيّة، ولقياس نجاح المعركة الإعلاميّة التى جعلت من أحداث يوم 7 أكتوبر بمثابة «إبادة جماعيّة» وليس أكثر من سنة من القتل الإسرائيلى الممنهج لآلاف الفلسطينيين.
‎بالتأكيد يُمكِن ربط هذه التحوّلات بتحوّلاتٍ تشهدها دولٌ كثيرة، خاصّةً فى أوروبا الغربيّة والولايات المتحدة، حيث تتعالى نزعات قوميّة شوفينيّة ويمينيّة متطرّفة… وإحدى دلالاتها الفوز الواضح لدونالد ترامب بالرئاسة الأمريكيّة وفوز الحزب الجمهورى الذى أصبح ترامب يسيطر عليه كليّا بأغلبية مجلسى الشيوخ والنوّاب، تحت شعار «لنجعل أمريكا عظيمة مجدّدا»، مع وعدٍ للأمريكيين بأنّهم لن يكونوا بحاجة إلى انتخابات مجدّدا بعد السنوات الأربع لولايته(!).
‎لكن يُمكِن بالمقابل ربط ذلك أيضا بالتحوّلات التى شهدتها القوى الصاعدة فى الشرق الأوسط، كما فى إيران الحرس الثورى وفى تركيا تحت ظلّ الرئيس رجب طيب أردوغان أو كما فى غيرهما بين بلدان الخليج… أنّ هذه البلدان أضحت قوى إقليميّة صاعدة قادرة على فرض هيمنتها على الدول المحيطة التى تتعرّض للهشاشة والضعف، وتجيّش جماهيرها لمشاريعها.
• • •
‎بالمقابل، كيف يُمكِن تفسير ضعف ردّة الفعل لدى الشعوب العربيّة على الإبادة الجماعيّة الممنهجة التى تستمرّ فى غزّة؟ سواء فيما يخصّ التضامن الإنسانى أو التضامن مع القضيّة الفلسطينيّة التى كانت جوهريّة حتّى فى فترات قريبة فى تحديد «الهويّة العربيّة؟» ضعفٌ حتّى بالمقارنة مع التضامن الذى برز لدى أوساط الشباب وغيرهم، ومن بينهم يهود، فى الدول الأخرى. وكيف يُمكِن تفسير ضعف ردّة الفعل الشعبى العربى تجاه انتقال حرب التدمير والتهجير والقتل الممنهجين نحو لبنان، البلد الذى يعتبره أغلب العرب منارةً فكريّة وأرض الجمال؟
‎يكبر السؤال عمّا إذا كان هذا الضعف ناتجا عن آثار انتفاضات «الربيع العربى» التى جلبت بدل الحرية والكرامة حروبا أهليّة وحروبا بالوكالة بين القوى الصاعدة وغيرها من القوى الكبرى؟ وأنّ أى تحرّكٍ شعبى سيؤدّى إلى اضطرابات قد تأخذ البلاد التى تحدث فيها إلى حروبٍ مماثلة؟ أم نتج الضعف عن انقساماتٍ فى الهويّة تجذّرت فى هذه المجتمعات، موجّهةً تارةً لتشيطن إيران وحلفائها وتصرّفاتهم وتارةً أخرى موجّهة ضدّ هذا التيار أو ذاك أو حتّى من الفئات الاجتماعيّة؟ هذا مع تجاهل نخر الهويّات الوطنيّة، والهويّة العربيّة أيضا، باللعب على الشرذمة المذهبيّة والإثنيّة والعشائريّة والمناطقيّة، وكأنّنا نعود إلى منطق عصورٍ غابرة؟
‎أم أنّ الأمر يتعلّق برخاءٍ نسبى حصلت عليه أطياف من هذه المجتمعات العربيّة، حيث لا تريد المخاطرة به، خاصّةً مع تدهور الأحوال المعيشيّة منذ أزمة جائحة الكوفيد 19 وحتّى قبلها؟ كما حصل لجزءٍ من المجتمع الفلسطينى الذى يعيش فى الضفّة الغربيّة والذى يبدو متأقلما مع الاحتلال والاستيطان مقابل بعض الرخاء، ومع سلطة فلسطينيّة أضحت فى الواقع تابعة للاحتلال وسياساته رغم مناداتها فى المحافل الدوليّة بالدولة التى تُقضَم أسس وجودها.
‎بالتأكيد هناك كثُر من العرب يعتبرون أنّ إطلاق عمليّة «طوفان الأقصى» كان مغامرةً غير محسوبة وغير مضبوطة. وأنّ الاستمرار لمّدة سنة فى معركة إسناد لغزّة، محدّدة الإيقاع والأبعاد، للتوصّل إلى وقف إطلاق للنار، كانت أيضا مغامرة غير مجدية. خاصّةً وأنّ لا حراك سياسى أو شعبى جدّى ظهر لهذا الإسناد ولوقف الإبادة. ربّما هؤلاء على حقّ. لكن من كان له أن يتوقّع انفلات العدوان الإسرائيلى إلى هذه الأبعاد التى تغيّر كلّ توازنات المنطقة جذريّا؟ وكذلك سعة الدعم الذى حصل عليه هذا العدوان من رئاسة أمريكيّة ديموقراطيّة ومن أوروبا الغربيّة؟
• • •
‎هناك شىء مريبٌ فى واقع عدم توصّل «الجهود الدبلوماسيّة» إلى وقفٍ للحرب، لا على مستوى غزّة والضفّة، ولا حتّى على مستوى لبنان. بالطبع يتمّ ضمن هذه الجهود صوريّا رفض تهجير الفلسطينيين، ولكن الأصوات لا تتعالى بالقوّة ذاتها تجاه عودة هيمنة إسرائيل العسكريّة على غزّة وتقطيع أوصالها وكذلك تصويت برلمانها على رفض فكرة الدولة الفلسطينيّة وإيقاف التعامل مع وكالة الأونروا الأمميّة وباستهزاء إسرائيل بالأمم المتحدة ذاتها، وهى أساس أى عملٍ دبلوماسى.
• • •
‎الآن سيفتتح نجاح ترامب فى الانتخابات الأمريكيّة مرحلةً جديدة. وسيكون الواقع عندما سيتسلم رئاسته أنّ حكما عسكريّا لغزّة وسجنا أصغر لكن أكثر إجاعةً وأقلّ كرامةً لسكّانها، ولواقع وجود آلاف الفلسطينيين الآخرين فى السجون. وستكون إسرائيل قد هجّرت فئة اجتماعيّة لبنانيّة كاملة لإفراغ جنوب لبنان وضاحية بيروت واستولت على مياهه. هذا فى الوقت التى تفاوض فيه على حصاره اقتصاديّا وبشريّا. بما فى ذلك ضبط حدود لبنان مع سوريا من قبلها، وتستمرّ فى قصف سوريا دوريّا.. للتسلية(!). كلّ هذا دون ردٍّ فعلى لا من الدول ولا من الشعوب العربيّة.
‎فماذا الذى سيقوم به ترامب «لإيقاف الحروب» كما ادّعى فى حملته الانتخابيّة؟ أسيُكمِل مشروع «الاتفاقات الإبراهيميّة» وإيصال طريق الحرير الأمريكى من الهند إلى غزّة؟ أم سيذهب إلى تقويضٍ بشكلٍ أكبر للدول التى أعلنها صديقه نتنياهو ملعونة؟ هل سيعلن حربا على إيران كما فعل بوش الابن مع العراق؟ أم سيذهب إلى إرساء توازنات أخرى فى المنطقة انطلاقا من اتفاقٍ يجريه مع «قيصر» روسيا، ليس فقط على إيقاف الحرب فى أوكرانيا، بل أيضا على تقاسم النفوذ والمصالح فى الشرق الأوسط، على حساب.. أو بالتوافق.. مع الصين؟! وفى لعبة مصالح دوليّة كبرى كهذه، ليست مصالح الدول الإقليميّة الصاعدة ورغباتها هى الأساس..
‎عندما لا يكون للشعوب وكلمتها وزن، لأنّها خائفة أو مشرذَمة، يكون مصيرها رهنا بصراعات أو توافقات «قياصرة» الدول الكبرى. بالمقابل، عندما تُبرِز تضامنها الداخلى ومنعتها ومقاومتها وطموحاتها، فحتّى «القياصرة» سيكونون مجبرين على أخذها بعين الاعتبار.. وأكثر من رغبات حكّامها.

أخبار مرتبطة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى