زلزال انتخاب فاى.. اتجاهات التغيير القادم فى السنغال
نشر مركز المستقبل للأبحاث والدراسات المتقدمة مقالا للكاتب حمدى عبدالرحمن، تناول فيه ملامح البرنامج السياسى للرئيس السنغالى الجديد، وتداعيات هذا البرنامج على العلاقة مع القوى الاستعمارية الكبرى لا سيما فرنسا. أخيرا تطرق الكاتب للتحديات التى تواجه تنفيذ البرنامج الانتخابى… نعرض من المقال ما يلى:
إن فوز بشير جوماى فاى، فى الانتخابات الرئاسية التى أُجريت فى السنغال يوم 24 مارس 2024؛ يعنى أكثر من مجرد تغيير فى القيادة؛ فهو يمثل تحولا كبيرا فى المشهد السياسى للبلاد ومسارها المستقبلى، ومن المرجح أن يُحدث الرئيس الخامس للبلاد بعض القطيعة مع التوجهات الحاكمة للتجربة السنغالية منذ الاستقلال عام 1960، ولا يخفى أن هزيمة ماكى سال، الذى تولى السلطة لمدة 12 عاما، تعكس عدم الرضا بين السكان عن أداء إدارته، وخاصة فيما يتعلق بقضايا بعينها مثل: انتشار الفقر وارتفاع معدلات البطالة بين الشباب.
ومن جهة أخرى، فإن إجراء الانتخابات بشكل سلمى وقبول النتائج من قِبل المرشح الخاسر يدل على التزام السنغال بالمبادئ الديمقراطية، وهذا ما يؤكد مقولة الاستثنائية الديمقراطية فى تقاليد غرب أفريقيا، ولعل ذلك يتناقض تماما مع تاريخ عدم الاستقرار السياسى والانقلابات العسكرية التى ابتُليت بها بلدان أخرى كثيرة فى القارة السمراء.
بيد أن قراءة البرنامج السياسى لتحالف الرئيس فاى، ولاسيما فيما يتعلق بقضايا الوحدة الأفريقية والإصلاحات الاقتصادية الراديكالية، بما فى ذلك إعادة التفاوض على العقود مع الشركات الأجنبية وإنهاء استخدام الفرنك الإفريقى؛ تشير إلى أننا أمام زلزال سياسى كبير، ومن المُرجح أن يكون لهذه التغييرات آثار بعيدة المدى على اقتصاد السنغال وعلاقتها بالقوى الاستعمارية السابقة مثل فرنسا.
يطرح فاى مشروعه السياسى من خلال إحداث قطيعة مع إرث المؤسسة الحاكمة منذ الرئيس المؤسس ليوبولد سنغور، وذلك على ثلاثة مستويات؛ أولا، الانفصال عن الروابط الفرنسية ــ القوة الاستعمارية السابقة للسنغال ــ من خلال التشكيك فى الفرنك الإفريقى واحتمال تقديم عملة وطنية جديدة. ثانيا، التخلص من «لعنة الموارد» من خلال الوعد بتوزيع أفضل للعائدات من النفط والموارد الطبيعية الأخرى. ثالثا، القطيعة مع ممارسات الحكم الفاسدة من خلال الإصلاح المؤسسى.
• • •
من الأمور الأساسية فى أجندة فاى، استعادة هيبة ومكانة المؤسسات الديمقراطية، والحد من تغول السلطة التنفيذية، ومعالجة الفساد. كما أنه يخطط أيضا لإعادة التفاوض بشأن العقود الدولية، وربما إدخال عملة جديدة؛ ما يعنى تقويض النفوذ الفرنسى فى المنطقة، وعليه، يمكن تصور معالم التغيير القادم فى السنغال على النحو التالى:
أولا:الحفاظ على ميراث الديمقراطية: يقول فاى إن أساس مشروعه السياسى هو إعادة تأهيل مؤسسات الجمهورية واستعادة مبدأ سيادة القانون الذى لم يتم احترامه فى عهد ماكى سال، ومن المعروف أن الديمقراطية بالنسبة للسنغاليين، ليست شعارا أو حتى مجرد الالتزام بحكم القانون؛ بل إنها طريقة للحياة؛ إذ تؤمن جميع طبقات المجتمع بهذه الثقافة الديمقراطية، كما يتضح من نسبة المشاركة العالية فى التصويت ووجود 19 مرشحا للرئاسة، ولعل ما يؤكد ذلك وجود تقليد موروث فى السنغال يتمثل فى الحوار المفتوح بين المعارضة والأغلبية المنتهية ولايتها، وذلك بفضل العديد من الوسطاء، بما فى ذلك رؤساء السنغال السابقون.
ويسعى فاى إلى التخلص من السلطات الرئاسية المفرطة من خلال تحديد المسئولية السياسية للرئيس وإمكانية محاكمته بسبب سوء السلوك الجسيم، والذى سيتم تحديد ماهيته، كما سوف يتم استحداث منصب نائب الرئيس، الذى يُنتخب بالتزامن مع الرئيس، وإلغاء منصب رئيس الوزراء. وجاء فى نص البرنامج الانتخابى المؤلف من 84 صفحة أنه سيتم توزيع صلاحيات كل من رئيسى السلطة التنفيذية بشكل واضح.
ثانيا: الفصل بين السلطتين التنفيذية والقضائية: فيما يتعلق بموضوع الإصلاحات القضائية، يعتزم فاى تأكيد الفصل بين السلطتين التنفيذية والقضائية، وفى هذ السياق، سوف يتم الانتقال من المجلس الدستورى إلى تبنى نموذج المحكمة الدستورية التى ستكون على رأس التنظيم القضائى، وكجزء من حملة المساءلة وتعزيز هيئات الرقابة، أعلن فاى أيضا عن نيته إلغاء ما يُسمى بالصناديق السيادية واستبدالها بصناديق خاصة صوت عليها المجلس النيابى للعمليات الحساسة للغاية (مثل الأسلحة والمهمات السرية). كما سيتم إقرار قانون لحماية الشهود وتشجيع الإبلاغ عن المخالفات، وفق ما ينص عليه قانون الشفافية فى إدارة المالية العامة.
ثالثا: الإصلاح النقدى والمالى: يَعِد فاى بالإصلاح النقدى، وربما حتى طرح عملة جديدة للسنغال، بدلا من فرنك الاتحاد المالى الإفريقى، الذى يكرس الهيمنة الفرنسية. لكنه يشير إلى أن إنشاء العملة يتطلب التروى واستيفاء متطلبات معينة مثل: تنفيذ سياسة اقتصادية كلية سليمة، وفصل البنوك التجارية عن بنوك الودائع، وتوفير الوسائل التقنية اللازمة لذلك. بيد أن الأكثر راديكالية يتمثل فى تأكيد فاى، قطع العلاقات الاقتصادية التى كان يُنظر إليها على أنها غير عادلة وطفيلية، وبقايا الاستغلال الاستعمارى التى لا تزال تعوق التقدم فى السنغال. ومن خلال الدعوة إلى إزالة الوجود العسكرى الفرنسى والسياسات الفرنسية الأبوية، يشير فاى إلى الالتزام باستعادة السيادة ورسم الطريق نحو تقرير المصير.
إن مسالة النفوذ الفرنسى ليست مجرد مسألة رمزية، فهى تتقاطع مع السياسات الاقتصادية التى طالما ألحقت الضرر بالأمة والدول الأفريقية الأخرى، وفى حين أن المصالح الاقتصادية الفرنسية ربما أسهمت فى النمو فى بعض الحالات، إلا أنها جاءت فى كثير من الأحيان على حساب سيادة السنغال والتنمية العادلة فيه.
رابعا: الإقليمية الجديدة: يتعهد الرئيس السنغالى الجديد باستعادة السيادة، وهى الكلمة التى استخدمها ما لا يقل عن 18 مرة فى بيانه الانتخابى، والذى يتضمن الالتزام بإعادة التفاوض على عقود التعدين والمواد الهيدروكربونية التى من المُقرر أن تدخل حيز التنفيذ هذا العام، كما يريد فاى إعادة تقييم اتفاقيات الصيد مع القوى الأجنبية؛ إذ تتضاءل الموارد السمكية التى تدعم حوالى 600 ألف أسرة سنغالية، ويتم نهبها، كما يقولون، من قِبل سفن الصيد الأوروبية والآسيوية. علاوة على ذلك، يؤكد بيانه ضرورة تطوير القطاع الزراعى لضمان الأمن الغذائى والتحرك نحو الاكتفاء الذاتى.
ومن أجل تحقيق التكامل دون الإقليمى والإفريقى الحقيقى، يخطط الرئيس فاى لقيادة مبادرة لإصلاح المجموعة الاقتصادية لدول غرب أفريقيا من خلال تعزيز برلمان ومحكمة «إيكواس» والحد من هيمنة مؤتمر رؤساء الدول والحكومات، وتضيف الوثيقة الخاصة لحزب الزعيم الشعبى، عثمان سونكو، «الوطنيين الأفارقة فى السنغال من أجل العمل والأخلاق والأخوة» (باستيف): «سنضع برنامجا حقيقيا للتعاون اللامركزى يشمل دول غرب أفريقيا»؛ موضحة أنه سيتم الحفاظ على هذا التعاون من خلال تنظيم المعارض التجارية على مستوى المدن، والفعاليات الاجتماعية والثقافية والتوءمة بين مدن غرب أفريقيا.
وعلى الرغم من أن خطة حزب «باستيف» التى سوف يحملها الرئيس السنغالى الجديد تتضمن بعضا من ملامح راديكالية فكرة «البان أفريكانزم» مع مسحة إسلامية معتدلة نتيجة احتكاك الشباب بمنظمة عباد الرحمن، فإن تفكيك الوجود الفرنسى الناعم والخشن يحتاج إلى وقت وحكمة. لقد حملت السنغال دوما لقب «فرنسا الصغيرة»؛ إذ ولاء النخب السياسية والمالية والدينية وحتى الأمنية موجه لباريس، ومن المرجح ألا يكرر شباب «باستيف» بزعامة فاى تجربة النظم العسكرية الثورية فى كل من مالى والنيجر وبوركينا فاسو؛ إذ إن السياق السنغالى مختلف وبالغ التعقيد والتشابك.
• • •
دعم الشعب السنغالى ومعظمهم من الشباب فاى، فى الجولة الأولى من الانتخابات الرئاسية، على الرغم من كثرة عدد المرشحات والمرشحين، لأنهم يرون أنه الرجل الذى سوف يحقق القطيعة مع الماضى المضطرب للبلاد ويحقق التغيير المأمول، بيد أن التحدى يرتبط دوما بتحويل الوعود إلى نتائج ملموسة. فالوقت اللازم للتكيف مع تعقيدات الحكم، إلى جانب السياق الدولى المتغير، يمكن أن تقف حجر عثرة أمام الحكومة الجديدة؛ كى تحقق نتائج سريعة تُلبى طموحات الناخبات والناخبين.
وعليه، فإن التحدى الأول يتمثل فى مدى وجود الوسائل والإرادة اللازمة لتحقيق الإنجاز. وتتمثل الصعوبة الأخرى فى أن حزب «باستيف» يتمتع بأقلية فى البرلمان؛ لذلك لم يستبعد فاى حل المجلس النيابى إذا وجد أغلبية تعارضه وتمنعه من تنفيذ إصلاحاته.
لقد ترك الرئيس المنتهية ولايته ماكى سال، على الرغم من مناوراته السياسية، سجلا اقتصاديا يمكن قياسه بالعدد الكبير من مشروعات البنية التحتية الكبرى التى تم تنفيذها خلال فترة ولايته، وشمل ذلك مدينة ديامنياديو الجديدة، بالإضافة إلى القطارات والمطارات والملاعب والطرق السريعة والمستشفيات الجديدة. كما قادت حكومته خطة تنمية طارئة للمجتمعات الريفية الصغيرة، ولكن العواقب الاقتصادية لجائحة «كورونا« والحرب الروسية الأوكرانية أدت إلى زيادة حدة البطالة بين الشباب وأوجه عدم المساواة الاجتماعية، بالرغم من الدعم المالى للفقراء. فهل يستطيع تحالف فاى سونكو التغلب على هذه التحديات؟
المصدر: “صحيفة الشروق”