رياح طهران وباريس وبريتوريا والسفينة المغاربية
كتب عبد الحميد اجماهيري في صحيفة العربي الجديد.
هناك اليوم ثلاث عواصم على الأقلّ، من ثلاث قارّات متباعدة جغرافياً وجيوسياسياً، وحتّى أيديولوجياً، تتوجّه إليها دول المغرب الكبير وشعوبه، لما لها من تأثير في المناخ واتجاهات رياحه في المنطقة. العواصم هي باريس وبريتوريا وطهران، ولها في تقلّبات المزاج المغاربي نصيب، بهذا القدر وذاك، حسب السياق، وحسب طبيعة العلاقة الآنية، وبناءً على السوابق الديبلوماسية مع المغرب الكبير.
في جنوب أفريقيا، التي تُعدّ قوّةً أفريقية وازنة بطموح مُعلن لكي تكون قوّة إقليمية ورائدة قارّية، والمخاطب الرئيسي دولياً، حظيت آخر الانتخابات، وما انتهت إليه من تحالف حكومي جديد بمتابعة دقيقة من دول المغرب الكبير، وخصوصاً البلدَين الكبيرَين فيه؛ المغرب والجزائر، تكشف إلى أيّ حدّ تؤثّر رياح الصناديق الجنوب أفريقية في تحديد المزاج السياسي المغاربي. في فرنسا الشيء نفسه، على أساس أنّ ما ستسفر عنها انتخابات الشهر الحالي (يونيو/ حزيران) ستحدّد كثيراً من مناخات العمل والعلاقات، منذ أظهرت الانتخابات الأوروبية تراجعاً كبيراً لحزب الرئيس إيمانويل ماكرون، وتقدّماً كبيراً على حسابه لقوى اليمين المُتطرّف بقيادة الجبهة الوطنية، التي تتزعّمها مارين لوبان. ثالثاً، توقّعات السياسة الخارجية الإيرانية في الاستعدادات المقبلة التي تحضر بدورها في عواصم المغرب الكبير، منذ رحيل الرئيس إبراهيم رئيسي ووزير خارجيته حسين أمير عبد اللهيان، وانطلاقاً من مسلسل البحث عن خليفة آية الله علي خامنئي.
المغاربة الذين تابعوا عن كثب ما يجري في بريتوريا كانوا ينتظرون اندحار هيمنة المؤتمر الوطني الأفريقي
ولعلّ القرب يفرض نفسه في البدء، بتحليل آثار الانتخابات الفرنسية المقبلة على توازنات المغرب الكبير، وأهمّ ما يمكن أن يُقلق في صعود اليمين المُتطرّف مآل الجالية المغاربية، باعتبار أنّ معادلات الفوز والخسارة تبني على قواعد تهمّ المغرب الكبير، ومنها مطاردة الأجانب، ويمثّل المغاربيون منهم 05% (من مجموع المهاجرين)، مع تفاوت بين الجاليات وأصولها في سجلّ الحرّيات الإنسانية التي تشملهم. كما يوجد أبناء المغرب الكبير في مرمى السياسات التي تبشّر بها أحزاب اليمين، واليمين المُتطرّف، لإرضاء جزء من ناخبيهم، والقائمة على التلويح بخطر الإسلام وأسلمة أوروبا أو ما صارت تُعرف بنظرية “الاستبدال”، أي استبدال شعوب أوروبا بجاليات مسلمة (!) ومن سوء الحظّ أنّ الاتفاق حاصلٌ في التحليلات والأبحاث السوسيولوجية والسياسية، طوال العقد الأخير، بأنّ الصعود الحتمي، تقريباً، لليمين المُتطرّف، مرتبط بـ”رهانات بنيوية ذات صلة بالهُويّة والتطوّر متعدّد الثقافات في المجتمعات الحديثة”، على حدّ تعبير جيل إيفالدي، من المركز الوطني الفرنسي للأبحاث العلمية، والخبير في الأحزاب اليمينية المُتطرّفة والظاهرة الشعبوية في أوروبا. ولعلّ الجوار المغاربي، من ليبيا إلى موريتانيا، مروراً بتونس والمغرب والجزائر، مفروضٌ عليه أن يتّخذ هذا التنامي بجدّية أكبر من الوضع الحالي، لكنّ الواقع أنّ المقاربات تظلّ فردانية، إن لم تكن تنافسية، حتّى في تدبير (تسيير) المشترك الديني في باريس مثلاً، والذي يشكّل حطب نيران اليمين. وعليه، يجعل الواقع السياسي، الذي سيتحدّد حسب بوصلة الناخب، المغرب الكبير معنيّاً مباشرة بخصوص السياسة التي ستباشرها القوّة السياسية اليمينية المقبلة، سواء تعايشت مع الرئيس الحالي أو دفعته إلى الاستقالة قصد إجراء انتخابات رئاسية سابقة لأوانها، في حال فوزها الواضح، كما تذهب إلى ذلك استطلاعات الرأي. وما يقلق قطاعاتٍ واسعةً في أوساط المهاجرين والمتتبّعين، وما يشغل المغاربيين منهم على وجه الخصوص، أنّ دولهم لم تجد الحدّ الأدنى العملي أو المعنوي للتصرّف كتلاً واحدة. وعليه، لم يصنعوا سياستهم مع الصعود اليميني، وهذا الصعود هو الذي سيصنع سياساتهم (!)
والمغرب الكبير شريك كبير لأوروبا، ولفرنسا بالذات، كما أن للأخيرة استراتيجيات خاصّة، سواء بالنسبة إلى كل من تونس والمغرب والجزائر وموريتانيا أو بالنسبة إلى ليبيا منذ أيام معمّر القذّافي. وبالتالي، المغرب الكبير مجالها الحيوي، ولعلّه الأخير، الشيء الذي يجعل كلّ القوى السياسية تنظر إليه نظرة أولوية وتأثير، وجزء كبير من السياسة الخارجية الفرنسية ستصنعه المقاربات التي سيمليها فهمها للمغرب الكبير. وهو ما يجعل العواصم المغاربية تنتظر النتائج، وبالتالي، لكلّ تصويت فرنسي انعكاساته المغاربية، وغير خافٍ أنّ النخب تتابع، في هذا البلد أو ذاك، عن كثب، متغيّرات السياسة الداخلية، ويتمّ تشريح المواقف والعودة إلى خلفيات كلّ زعيم يميني يتقدّم المشهد. حصل ذلك مع جورجيا ميلوني، اليمينية في إيطاليا، التي استرجعت شبكاتُ التواصل الاجتماعية، المناصرة للانفصاليين، صورها وهي تدعم “بوليساريو” قبل أن تفرض عليها الدولة منطقها في التعاون الجيوسياسي. ويحدُث ذلك مع مارين لوبان، وفريقها في فرنسا، الذي لا يُخفي معاكسته سياسات الدولة الجزائرية. وغير خافٍ، كذلك، أنّ العواصم المغاربية تختلف انتظاراتها من النتائج التي ستسفر عنها الانتخابات الحالية في باريس.
تطبّع إيران علاقتها مع جنوب أفريقيا للعب دور في شمال أفريقيا والساحل، باعتبارهما مناطق حيوية للمغرب الكبير
الشيء نفسه يتحدّد في جنوب أفريقيا، فالمغاربة الذين تابعوا عن كثب ما يجري في بريتوريا، كانوا ينتظرون، على أمل كبير، اندحار الهيمنة التي فرضها المؤتمر الوطني الأفريقي، وهي هيمنةٌ لم تكن في مصلحة المغرب، منذ صارت جنوب أفريقيا راعية لجبهة البوليساريو الانفصالية، بل تجاوزت الشقيقة الجزائر، أحياناً، في التبنّي والدعم. وإذا كانت العلاقة بين الجزائر وبريتوريا ظلّت في مستوىً يثمّنه الطرفان، فإنّ هناك تباينات في مسار العلاقة بين المغرب وجنوب أفريقيا تفرض نوعاً من التأريخ لها، فقد ظلّت جنوب أفريقيا، وطوال سنوات نيلسون مانديلا، ثمّ بعد مجيء تابو مبيكي، وفي بداية ولايته، غير متحمّسة للاعتراف بالجمهورية المعلنة في تندوف فوق التراب الجزائري، ولم ينسَ مانديلا ورفاقه ما قدّمه المغرب لقضيتهم، وما زالت فيديوهات الاستقبال الحار والكبير الذي خصّصه لوزير الشؤون الأفريقية، في الستينيات، عبد الكريم الخطيب، رحمه الله! حاضرة في الشبكات التواصلية، لمّا احتفل به مانديلا في ملعب كرة القدم، وقدّمه في حفل تنصيبه في إبريل/ نيسان 1994 صديقاً لثورة ألوان الطيف. لكنّ الوضع تغيّر مع مطلع سنة 0002، مع مجيء الرئيس جاكوب زوما وزوجته، التي قادت الجناح الأكثر عداء للمغرب في السياسة والديبلوماسية لحسابات داخلية. ولطالما تواجَه المغرب مع جنوب أفريقيا، في حين نسّقت شقيقته الجزائر عملها معها في أفق محاصرته، وهذه المعادلة قد تتغيّر. ومن المفارقات أنّ الصحافة الفرنسية هي التي تنبّأت، قبل الانتخابات، بأنّ فقدان المؤتمر الوطني للهيمنة سيكون في مصلحة الرباط، إذ حصد الحزب في الانتخابات العامة التي جرت في 29 مايو/ أيّار الماضي 04% من الأصوات، ليخسر بذلك الأغلبية المطلقة في البرلمان للمرّة الأولى منذ 4991، وحدث أنّ تطوّرات الوضع جاءت بالتحالف الليبرالي إلى سدّة الائتلاف الحاكم. وهو تحالفٌ لا يعادي المغرب، كما أنّه يعتبر مُقرّباً من الغرب، وعضواً في الليبرالية الدولية التي تضمّ أحزابا مغربية، بعضُها جزءٌ من الحكومة الحالية. وفي حين يترقّب المغرب تطوّرات الوضع، لم تقدّم الجزائر سبباً لغياب ممثّلين رسميين لها، من مستوياتٍ عليا، كما هي العادة، إلى حفل تنصيب الرئيس الجديد رامافوزا. ولعلّ السبب قد يكون في عدم دعوة زعيم الانفصاليين إبراهيم غالي، الذي كان يُفرش له السجاد الأحمر ويستقبل استقبال الرؤساء.
ويعدّ حزب التحالف الديمقراطي ثاني أكبر حزب سياسي في جنوب أفريقيا بعد المؤتمر الوطني الأفريقي الحاكم، أنّ تعزيز علاقات التعاون بين المغرب وجنوب أفريقيا، وهما قوّتان أفريقيتان وازنتان، يشكّل مصدر قوة رئيس للقارّة جمعاء. وسبق للمتحدّث باسم الحزب في قضايا السياسة الخارجية ستيفنز موكغالابا، أن قال إنّ في وسع المغرب وجنوب أفريقيا، باعتبارهما من أكبر الاقتصادات في أفريقيا، أن يضطلعا بدور القاطرة في تعزيز التكامل في القارّة. على كلّ، تهبّ رياح جنوب أفريقيا بقوّة على المغرب الكبير، والتغيرات التي سيفرضها وجود تحالف متعدّد الأجنحة ستحدّد أجندة داخلية أكثر ملحاحية على القيادة القادمة.
وفي المثلث الخارجي، ذي التأثير المغاربي، تحضر إيران، كذلك، التي بدأت تطبّع علاقتها مع جنوب أفريقيا، ومحاولتها لعب دور محوري في شمال أفريقيا والساحل، باعتبارهما مناطق حيوية للمغرب الكبير. بالنسبة لإيران، لا أحد يمكنه أن ينتظر الأمل من تحرّكات طهران في المغرب الكبير. ولعلّ الحقيقة الجغرافية أنّ سياسة إيران لا تتغيّر من ناحية أنّها لا تجد تربة خصبة لها إلا في الفضاءات الجيوسياسية التي تكون الدولة فيها منهارة أو منعدمة أو في حالة حربٍ أو في طور التشكل المهزوز، ولنا في الشرق الأوسط خريطة واضحة للطريق الشاقّة التي تريدها إيران. ولعلّ التوجه نحو تونس، الموجودة في حالة احتضار مؤسّساتي واضحة، وعسر في التنفّس الاقتصادي، هو في الواقع بداية لانهيارها، ولكن بالنسبة لطهران، وبالخصوص روّادها في تصدير الآثار المدمّرة للثورة، هي فرصة لتضع قدمها علانية في دولة مغاربية والتحرّك لمناكفة الدول التي تعاديها، كما هو حال المغرب، وللضغط على موريتانيا لإيجاد موطئ قدم في مشارف الساحل وجنوب الصحراء. وليس من شأن نشاطها في التراب التونسي أو في التراب الجزائري مثلاً أن يطمئن الجيران المغاربيين الآخرين، ولا يمكن تصوّر تطور إيجابي بحضور هذه المعادلة في العلاقات المغاربية.
قد تنتبه إيران إلى استحالة خوض حروبٍ في جبهة أفريقية مغاربية بعيدة عن مرتكزاتها الحربية في الشرق الأوسط
قد يكون هناك أمل صغير في أن يتغيّر اليمين مع السلطة، باعتبار قوة المؤسّسات في أوروبا، ووجود سلطات مضادّة وشعوب مسيّسة، وإن كان هذا الرأي ليس سائداً للأسف، ونظراً إلى أنّ قواعد السلوك ليست كلّها مكتوبة، لكنّ الذي قد يفرض نوعاً من التروّي هو الحقائق السياسية والاجتماعية، وقد تسعفنا تطوّرات الديمقراطية الجنوب أفريقية في تغيير بريتوريا من طبيعة حضورها في سياسات دول المغرب الكبير نحو أفضلية بناء شريك شمال ـ أفريقي متكتّل وتخفيف حدّة المواجهات في الساحة الأفريقية، كما قد لا نستبعد أن تنتبه إيران إلى استحالة خوض حروبٍ جديدة، ولو بكفالة، في جبهة أفريقية مغاربية بعيدة كلّ البعد عن مرتكزاتها الحربية في الشرق الأوسط، والاكتفاء بالدعاية (البروباغاندا)، لكنّ الثابت أنّ الانتظارية لم تعد سالكة في وضعٍ كهذا، بحيث صار من المطلوب أن تستفز السلطاتُ الجديدة في هذه العواصم أصحاب القرار المغاربي كلّها، من أجل أفقٍ مغاربيٍّ مغايرٍ لما هو موجود. والأمر صعب للغاية، سيّما أنّ كلّ المحاولات من أجل تلطيف الأجواء (كما هو حال اليد الممدودة للملك محمد السادس والوساطات العربية) لم تلقَ صداها المطلوب، في وقت هناك دعوات إلى “نسيان البناء المغاربي”، عند جزء مُهمّ من النخبة.