

كتبت الصحافية جنى شوربا, في صحيفة رأي سياسي:
الرابع والعشرين من الشهر الجاريي، هو اليوم الذي سيتجه فيه أهالي القرى في جنوب لبنان إلى صناديق الاقتراع لاختيار مجالسهم البلدية والاختيارية، ولكن الأجواء هذه المرة ليست كما اعتادوا! اذ أن طائرات الاستطلاع الإسرائيلي لا تزال تُحلّق فوق رؤوسهم، الأرضُ مُثقلة بركام المنازل التي دمّرها قصف الاحتلال المستمر منذ تشرين الأول 2023، أي منذ ما يقارب العام والنصف.
لا تحمل هذه الانتخابات الصفات التقليدية العامة، فلا يمكن اعتبارها استحقاقًا روتينيًا فقط، بل إنها فعل تحدٍّ من الجنوبيين، وسلوك أرادوا من خلاله التأكيد على ثباتهم في أرضهم. فمن عيتا الشعب، إلى ميس الجبل، إلى محيبيب التي صارت رمادًا، وغيرها من القرى الواقعة على الشريط الحدودي… نهض الأهالي وأصرّوا على ممارسة حقهم، معتبرين أن ورقتهم الانتخابية هي استمرارٌ للنضال.
لا يمكن إنكار إصرار الدولة على احترام حق الناس في اختيار ممثليهم المحليين، فقد وضعت وزارة الداخلية، بالتنسيق والتعاون مع المحافظين، خطة استثنائية لتنظيم العملية الانتخابية في القرى التي يتعذر القيام بالاقتراع فيها بسبب الأوضاع الأمنية، أو تضرّر مراكز الاقتراع الاعتيادية. وعمدت الخطة إلى نقل بعض المراكز إلى بلدات مجاورة أكثر أمانًا، أو إنشاء خيم اقتراعية مؤقتة وسط الأنقاض.
إن ثبات الجنوبيين والدولة على قرارهم, يعكس المعرفة العميقة لأهمية المجالس البلدية، إذ إن مهامها لا تقتصر على الماء والكهرباء والنفايات، بل تشكّل نقطة ارتكازٍ أساسية في عملية إعادة الإعمار، لذا فإن إجراء هذا الاستحقاق يتعدى كونه ترفًا سياسيًا، إلى أن يصبح ضرورةً إنمائية.
في المقابل، تباينت المواقف، وانقسمت بين داعمٍ لهذه الخطوة باعتبارها رسالةَ صمود، وبين آخرين شكّكوا، حيث إن العديد من السكان، إضافةً إلى عدم إيمانهم بمصداقيتها، لا يؤمنون بإمكانية إجرائها وسط التصعيد العسكري. بالتالي، لا يمكن الحديث عن تمثيلٍ ديمقراطي في ظل غياب قسمٍ كبيرٍ من السكان الذين لا يمكنهم المشاركة. لكن الموقف الشعبي كان غالبًا، وأكثر وضوحًا: الجنوب يريد أن ينتخب.
ليست الانتخابات مجرد مناسبة سياسية عابرة، بل هي اختبار حقيقي لإرادة الناس في مواجهة الخراب. ففي القرى القابعة على خطوط التماس، تتحوّل ورقة الاقتراع إلى وسيلة مقاومة مدنية، تردّ على الاعتداءات بالصمود، وتحوّل صندوق الاقتراع إلى سلاح من نوعٍ آخر. إنه فعلُ سيادةٍ وإصرارٍ على الديمقراطية، التي تقاوم تحت النار، وتُعلن وجودها رغم كل محاولات تغييب الجنوب أو كسر إرادة أبنائه.
ومع نهاية هذا الاستحقاق، تتجه الأنظار إلى الخطوة التالية: كيف ستُترجم هذه المجالس المنتخبة آمال الأهالي إلى خطط إعمارٍ فعلية؟ وهل ستتوافر لها الإمكانات والدعم السياسي والمالي اللازم؟ لقد عبّر الجنوب عن إرادته عبر صناديق الاقتراع، لكن التحدي الحقيقي يبدأ الآن، في القدرة على تحويل هذا الصوت إلى مشاريع، وبُنى تحتية، وأملٍ حقيقيٍّ بمستقبلٍ لا تصنعه الحروب فقط، بل تصنعه أيضًا صناديق القرار.