
كتب أسامة سرايا في صحيفة الأهرام.
دار الزمن دورته التاريخية بين مصر وفرنسا، وها نحن أمام صورة تاريخية جديدة، عدنا لنكتب التاريخ الإنساني ونفتح صفحات جديدة للأمل، بين الشعوب والحضارات، بين شطآن المتوسط (غربا وشرقا)، والسجل مفتوح منذ كشف شامبليون، سر الحضارة المصرية القديمة عبر حجر رشيد، وإرسال محمد على باشا لمبعوثين مصريين للدراسة بقيادة رفاعة الطهطاوي، عدنا في الربع الثاني من القرن الراهن، الواحد والعشرين عندما اهتزت منطقتنا بأطول حرب مع إسرائيل والحصار الجائر على سكان غزة، سيتذكر المصريون زيارة نبيلة للتاريخ بين رئيسين ما زالا يسجلان للحضارة الإنسانية صفحات جديدة مبهرة للسلام والتنمية لشعبيهما وللمنطقة وللعالم. الرئيس المصري عبد الفتاح السيسى، زعيم مصر، والرئيس الفرنسي ماكرون.
تلك الزيارة جاءت لمصر في توقيت دقيق وحساس، إبريل 2025، لم تكتف بمباحثات أو شراكة إستراتيجية بين البلدين، ولقاءات بجامعة القاهرة واتفاقيات للطاقة والتكنولوجيا والتعاون الاقتصادي، لكن كعادة الحضارات القديمة والعريقة، التحمت بالناس، وزار والتقى السيسي وماكرون أهل الحسين وخان الخليلي في قلب مدينة القاهرة، في مشهد يعكس روح القاهرة القديمة والحديثة معًا، ويرد على من حاولوا إظهار مصر على عكس حقيقتها، بل بصمودها وعملها لتغيير وجه الحياة لأهلها من المصريين الذين يدفعون ثمن البناء، ويتحملون خسائر ضخمة نتيجة الصراعات والحروب الدائرة حولنا، والمصريون متمسكون بدعم الشعب الفلسطيني وبقاء أهل غزة في مدينتهم التي هدمتها إسرائيل في أطول حرب مر عليها أكثر من عام ونصف العام، ولا يتحرك أحد، حتى عندما يلتقي زعماء العالم ويتحدث الرئيس الأمريكي ترامب مع فريقه، أو مع نتنياهو، رئيس الوزراء الإسرائيلى، لا يتكلمون عن ضحايا غزة وحصارهم دون طعام ومياه، ويعيشون بلا كهرباء وبلا أي مستلزمات الحياة، وتهدمت مدينتهم تمامًا على رؤوس أهلها بالطائرات التي تقتل وتشن غاراتها، هنا كان لقاء الرئيسين -المصري والفرنسى- في العريش هو الآخر، بالقرب من مجزرة الإسرائيليين والإبادة الجماعية، للوقوف على صورة حقيقية لما يحدث لأهل فلسطين، الذين يعيشون مهاجرين بلا هوية وبلا دولة، وأرضهم استولت عليها إسرائيل وأقامت عليها دولتها، ولا تريد أن تترك جزءًا من الأرض لهذا الشعب المسكين لكي يقرر مصيره.
كانت القمة المصرية-الفرنسية التي حضرها ملك الأردن، قمة ثلاثية وكان هدفها كشف العدوانية الإسرائيلية، وأن يلتقي الجميع في القاهرة لإعادة تعمير غزة التي سبق عقد قمة في أوائل مارس، وأعطت للعالم مشروعًا لإعادة إعمار غزة وأهلها إلى الحياة، وإنقاذ الفلسطينيين ولكي ترمم وجه العالم الذي أصابته ندوب، وأصبحت دماء أطفال غزة عنوانًا للكراهية والعنف الذي يسود بين العرب والإسرائيليين منذ النصف الثاني من القرن العشرين، العرب يمدون أيديهم بالسلام والتعايش الإقليمى، والإسرائيليون يرفضون بل يبيدون الفلسطينيين على أرضهم.
القمة المصرية-الفرنسية-الأردنية، التي انضم إليها الرئيس ترامب هاتفيًا، كانت رسالة إيجابية وتحركًا على المستوى الدولي، لوقف هذه الحرب المهلكة لكل الشرق الأوسط، والتي تفتح أبواب الجحيم واستمرار شرارات الحروب الدينية والكراهية العنيفة بين الشعوب، لكن إسرائيل لم تتعظ وأمريكا ترامب وقبلها أمريكا بايدن، تشعر بالضعف والهزال أمام هذا اليمين المجحف المتطرف.
لا يسعنا إلا نشكر ونثمن فاعلية مصر، ونزكي دورها لوقف الحرب، وأن نشير إلى أن زيارة ماكرون والقمة الثالثة ثم الرابعة بالقطع سيكون تأثيرها على الأوضاع المتردية في المنطقة العربية والأراضي الفلسطينية (غزة والضفة والقدس)، وأن الرسالة التي خرجت من القاهرة موجهة ضد التوحش والعدوانية الإسرائيلية، ستلجم التيارات المتطرفة في أمريكا وإسرائيل، وأنها بمثابة طوق إنقاذ للإنسانية وللمؤسسات الدولية التي غابت عنها ضرورات وقف هذه الحرب التي خرجت عن كل السوابق، وأصبحت بمثابة إطلاق شرارات العنف والتطرف في كل جزء من عالمنا، وأصبحت الحرب المهلكة، ليس للشرق فقط، لكن للغرب أيضًا.