“راتب أبريل” يبتسم لموظفي الخرطوم ويتجاهل الولايات.
لم تكد فرحة العاملين في السودان تكتمل بإعلان وزير الثقافة والإعلام المكلف، جراهام عبدالقادر، المتحدث باسم الحكومة، عن توجيه مجلس الوزراء إيداع وزارة المالية رواتب العاملين بالوزارات والهيئات الاتحادية، حتى تبين أن الصرف يقتصر على راتب شهر واحد من جملة متأخرات ممتدة إلى أربعة أشهر.
صدمة العاملين في المواقع الرسمية بالسودان تتزامن مع تراكم المديونيات عليهم وتزايد النفقات منذ اندلاع المعارك، وسط شكوك حول مصير رواتب العاملين بالولايات، كون التوجيه يقصر الصرف على الوحدات الاتحادية المركزية، وولاية الخرطوم من دون غيرهما.
تنفيذاً لتوجيه مجلس الوزراء السوداني، طالب ديوان الحسابات القومي المديرين الماليين بالوزارات والوحدات الحكومية المركزية بمراجعة حسابات وحداتهم لدى بنك السودان المركزي للتأكد من وصول التغذية المالية وصرف الرواتب عن شهر أبريل (نيسان) الماضي، على غرار مارس (آذار) الماضي، أي آخر راتب تقاضاه الموظفون قبل الحرب.
من جانبه، قال المتحدث باسم لجنة المعلمين السودانيين سامي الباقر، إن التوجيه الحكومي الأخير في شأن راتب أبريل الماضي شمل الوحدات المركزية فقط، متسائلاً عن المصير الذي ينتظر رواتب العاملين في الولايات والمحليات التي تضم نحو 99 في المئة من العاملين بقطاعات التعليم والصحة والخدمات.
وأوضح أن القرار يعني أن الوضع بالنسبة إلى العاملين على المستوى الولائي سيظل كما كان عليه منذ اندلاع الحرب، منتصف أبريل الماضي، بخاصة بعد تأكيد الولاة وأمناء الحكومات خلال لقاءاتهم مع اللجان الفرعية للمعلمين عدم توفر الموارد والإيرادات اللازمة التي تمكنهم من سداد الرواتب.
مصير الولايات
المتحدث باسم لجنة المعلمين السودانيين طالب بضرورة تعديل التوجيه ليشمل صرف راتب أبريل لجميع الولايات، بعد أن تأكد عبر لجانهم الفرعية بالولايات أنهم مستبعدون من قرار الصرف، إنما يقتصر فقط على الوحدات والوزارات القومية التي ترتبط مباشرة بوزارة المالية، باستثناء الخرطوم.
تفادياً لوضع كثير من الولايات التي تعاني شحاً في الإيرادات الذاتية وتعتمد بشكل كلي في سداد الرواتب على التحويلات المركزية، لجأت حكومة ولاية غرب كردفان إلى معالجات استثنائية تمكنت عبرها من صرف رواتب العاملين بالولاية عن أبريل، وذلك بالخصم على “مال البترول” المخصص للتنمية.
نائب والي غرب كردفان، آدم كرشوم نور الدين، نبه إلى تسلم الولاية نصيبها من “مال البترول” وفق اتفاق جوبا لسلام السودان، مشيراً إلى أن هذه الأموال مخصصة للتنمية لكن تم دفع الرواتب منها تقديراً لظروف العمال، وسيتم استرجاعها من وزارة المالية الاتحادية حال تحسن الأوضاع بالبلاد وتمكنها من سداد رواتب العاملين بالدولة.
حيا نائب الوالي العاملين على صبرهم خلال الفترة الماضية، مبيناً أن صرف راتب أبريل سيسهم في معالجة بعض المشكلات الاقتصادية للعمال.
تدويل الشكوى
إزاء هذا الوضع كشف المتحدث باسم لجنة المعلمين السودانيين عن أن عدداً من الكيانات المنضوية تحت مظلة الجبهة النقابية السودانية، قررت رفع مذكرة إلى منظمة العمل الدولية، تحيطها علماً بتوقف حكومة السودان عن دفع رواتب العاملين بالدولة والمعاشيين، فضلاً عن فصل عدد كبير من شركات القطاع الخاص جميع العاملين تعسفياً من دون تعويض.
المذكرة اعتبرت مسلك الحكومة وبعض الشركات الكبرى في البلاد يشكل تجاهلاً صارخاً لمعايير العمل الدولية وحق العامل في الحصول على الأجر، وانتهاكاً صريحاً لقوانين العمل الدولية، وعلى رأسها الاتفاقية (95) المتعلقة بحماية الأجور لسنة 1949 والاتفاقية رقم (173) في شأن حماية مستحقات العمال عند إعسار صاحب عملهم لسنة 1992.
وأشارت إلى أن حقوق العاملين في الأجر تعتبر استحقاقاً محمياً وفقاً للاتفاقية رقم (173) لمنظمة العمل الدولية، كما أنه لا يجوز الحجز أو التنازل عن الأجور فيما عدا الحالات التي ينص عليها القانون، كما تحمي المادة (10) من الاتفاقية رقم (95) لمنظمة العمل الدولية أجور العاملين من الحجز بالقدر الذي يعتبر ضرورياً لحياة العامل وأسرته.
الباقر أوضح أن المذكرة شرحت الوضع منذ أبريل الماضي وتوقف الحكومة عن دفع رواتب العاملين في الخدمة المدنية وقصرها على منسوبي القوات المسلحة وبقية الأجهزة النظامية، على رغم أنهم جميعاً ينتمون إلى الخدمة العامة في الدولة.
تابع “حدث ذلك دونما اعتبار لدور العاملين في الحفاظ على استدامة الخدمات الضرورية، المرتبطة بحياة الناس اليومية من خدمات مياه وكهرباء وتعليم وصحة وغيرها من الخدمات التي لا يستغني عنها المواطن في كل بقعة من بقاع السودان، وهو أمر يشكل خرقاً صريحاً لالتزامات السودان الدولية”.
مذكرة الجبهة النقابية السودانية اعتبرت قرارات الحكومة وبعض شركات القطاع الخاص مخالفة للقوانين المحلية، وخرقاً لاتفاقية منظمة العمل الدولية، وتمثل تهديداً لأمن واستقرار العاملين وخطراً على الحياة والسلم الاجتماعي لكل السودانيين.
وطالبت المنظمة الدولية بالتدخل وإلزام الحكومة السودانية الوفاء بالتزاماتها تجاه العاملين، والدعوة إلى حملة تضامن دولية واسعة مع جماهير العاملين بالسودان من أجل الدفاع عن حقهم في الأجر.
ردود صادمة
المتحدث باسم لجنة المعلمين السودانيين، أشار كذلك إلى عدة مناشدات ومخاطبات وجهتها الجبهة النقابية لوزارة المالية وعدد من حكومات الولايات بضرورة التزام صرف رواتب العاملين منذ مايو (أيار) الماضي، إلا أن رد وزير المالية والتخطيط الاقتصادي، وإدارة الموارد البشرية والمالية بالوزارة، جاء بعدم إمكانية صرف الرواتب للعاملين بالدولة، بسبب شح الإيرادات، وحصر الصرف على الأجهزة الأمنية والعسكرية وما يلزم من ضرورات.
رداً على ما راج بوسائل التواصل الاجتماعي أصدرت وزارة المالية والتخطيط الاقتصادي بياناً أكدت فيه أن الإيفاء بسداد رواتب العاملين بالدولة أولويتها في الوقت الراهن، مرجعة تأخر سدادها إلى أسباب فنية ناتجة من تحديات الحرب اليومية والآثار المترتبة عليها.
ووصفت الوزارة ما تناقلته بعض الوسائط حول قيامها بدفع رواتب لقوات “الدعم السريع” بأنه “أمر ساذج ومفبرك”، موضحة أنها ظلت تعمل منذ 15 أبريل الماضي على توفير التزامات القوات المسلحة السودانية، بوصفها وزارة فنية لا يتعدى دورها التعامل مع الإيرادات وبنود الصرف والتخطيط الاقتصادي، وأنه منذ حل “الدعم السريع” من قبل القائد العام للقوات المسلحة السودانية، لم تعد الوزارة تتعامل معه ضمن بنود الصرف.
ونبهت إلى أن مجلس الوزراء الانتقالي الأخير وجه وزارة المالية وبنك السودان بالتعاون مع وزارة الطاقة التي ستودع إيرادات من عدة جهات تابعة لها لصالح بنك السودان، وذلك لتغذية حسابات الوحدات الحكومية المختلفة بغرض صرف رواتب العاملين.
من جانبه، شكك الأكاديمي المتخصص في علم الاقتصاد، عاصم سر الختم، في قدرة الولايات على سداد رواتب العاملين بها والذين يشكلون السواد الأعظم من العاملين بالدولة، مشيراً إلى أن معظم الولايات ظلت تعتمد بشكل كبير وأساسي على التحويلات الاتحادية التي ترسل لها من المركز لتدفع منها الرواتب، إذ يعاني معظمها عجزاً في بند تعويضات العاملين أو ما كان يعرف في السابق بالفصل الأول من مواردها الذاتية.
وذكر أن العجز الكبير في الإيرادات نتج بشكل رئيس من الخطأ التاريخي بتركز معظم النشاط الاقتصادي والتجاري والصناعي وجزء كبير من الزراعي في القطاعين العام والخاص بالخرطوم، التي كانت تمثل مصدراً أساسياً للجبايات الحكومية لكنه انقطع مع توقف الحياة الاقتصادية بشكل شبه كامل في العاصمة وسبب شللاً في إيرادات الحكومة، فضلاً عن تراجع حركة الوارد والصادر وتقلص إيرادات الذهب والبترول والثروة الحيوانية بشكل كبير.
أزمة الموارد
الأكاديمي عاصم سر الختم نوه بأن عجز الدولة عن معالجة موضوع رواتب العاملين طوال تلك الفترة يؤكد مدى أزمة الموارد التي دخلت فيها البلاد بسبب الحرب التي شلت معظم مواعين الإيرادات على قلتها، لافتاً الانتباه إلى ضعف أداء وفعالية الحكومة الحالية وعجزها عن استنباط أي موارد أو معالجات كانت متاحة منذ البداية مثل تلك التي تمت حالياً، بخاصة أن مشكلة انقطاع التراسل الشبكي لم تكن تشمل الولايات، سواء على فروع بنك السودان في بورتسودان أو ود مدني.
ودعا إلى سرعة علاج مشكلات التطبيقات لضمان كفاءتها بتجاوز كل الأخطاء التي لازمت عملها خلال الشهر الأول من الحرب، بوصفها القنوات المتاحة لوصول الرواتب إلى مستحقيها.
كان مجلس الوزراء الانتقالي في السودان أصدر توجيهاً في الأول من أغسطس (آب) الجاري، على ضوء توصيات اجتماع ضم وزير شؤون مجلس الوزراء المكلف بمهام رئيس الوزراء، في شأن رواتب العاملين بالحكومة الاتحادية وولاية الخرطوم، بحضور وزيري المالية والتخطيط الاقتصادي والطاقة والنفط، إضافة إلى محافظ بنك السودان المركزي ووكيل وزارة المالية.
التوجيه تضمن أهمية التنسيق بين تلك المجموعة وبنك السودان المركزي فرع بورتسودان لإيداع مبلغ الرواتب في حساب البنوك التجارية (بنك فيصل الإسلامي السوداني وبنك الخرطوم) التي بها حسابات للعاملين بالحكومة الاتحادية وأي بنوك تجارية أخرى خلال أسبوع واحد.
ومنذ اندلاع الحرب بين الجيش السوداني وقوات “الدعم السريع”، منتصف أبريل الماضي، أغلقت المؤسسات والدور الحكومية والخاصة بولاية الخرطوم أبوابها، ولم تتمكن الوزارات ومؤسسات الدولة من صرف رواتب العاملين فيها، كما انهارت التطبيقات والشبكات المصرفية مما تسبب في عزل كثير من البنوك عن فروعها بالولايات.