رأي

رؤية لتجاذبات الساحة الدولية.. 

جاء في مقال للكاتب طارق الحريري في سكاي نيوز :

شهدت علاقات الغرب مع روسيا الفيدرالية وريثة الاتحاد السوفيتي تحولا جذريا، من حرب باردة خشنة إلى قبول وترحيب بعد انهيار الدولة الشيوعية، وعندما أنزل في 25 ديسمبر 1991 العلم الأحمر ذو المطرقة والسندان ليحل العلم الروسي القديم بدلا منه فوق الكرملين، بدأت حقبة جديدة قلبت رأسا على عقب الصلات والروابط القديمة ما بين روسيا والعالم.

بكل الترحاب والحفاوة استقبلت الولايات المتحدة والغرب عموما الوليد الروسي الجديد الذي جاء على أنقاض العدو السوفيتي، الغريم الأشرس في ظل صراع أيديولوجي جسيم، وكما هي الأحوال دائما في مثل هذه الظروف التي تشهد سقوط امبراطوري أقبلت روسيا على مرحلة من الفوضى والارتباك تلازما مع الأوضاع الجديدة.

استمرت حالة التشوش والهشاشة التي اقترنت بالدولة الجديدة إلى أن تولي رئيس جهاز الأمن الفيدرالي الروسي فلاديمير بوتين ضابط المخابرات السابق سلطة البلاد في عام 2000، في صفقة خروج آمن مع بوريس يلتسين أول رئيس تولي حكم روسيا، في التو بدأ الرئيس الجديد يعيد ترميم الدولة المنهكة من دون الانزلاق في أي نزاعات خارجية في سنوات حكمه الأولى.

تدريجيا بدأت روسيا في النهوض من كبوتها، وكان من أولويات استعادة هيبة الدولة الحفاظ على القوة العسكرية وتعزيزها، والسيطرة داخليا على الأقاليم المضطربة، مثل داغستان وإقليم الشيشان وأنغوشيا، ونجحت موسكو في السيطرة التامة على كامل أقاليم الدولة، ومناطق الحكم الذاتي.

بعد إحكام نفوذ الدولة داخليا صدرت وثيقة الأمن القومي، التي أظهرت فيها موسكو مدي الاهتمام بالحضور المؤثر لروسيا في مجالها الجيوسياسي، والصعود كقطب مستقل يهدف مع القوي ذات الصلة إلى حلحلة النظام الدولي من حالة سيطرة القطب الأوحد إلى التعددية القطبية، انطلاقا -بداية- من قوتها العسكرية الفائقة عبر إحياء قيم الدولة القومية الروسية ذات الهوية التاريخية.

لهذا في مرحلة تالية بعد الاستقرار الداخلي بدأت نشاطها لحسم بعض المواقف في خارج روسيا، في المناطق الموالية مثل أبخازيا وأوسيتيا، ومع استعادة الاتحاد الروسي لعافيته بدأت المعادلة الجيوسياسية تختلف إقليميا بنفوذ روسي متزايد انتهي باستعادة القرم (كانت قد ألحقت بأوكرانيا خلال الحقبة السوفيتية)، جري هذا الضم بعد التلميح بانضمام أوكرانيا إلى حلف شمال الأطلسي (الناتو)، واعتبر الغرب عملية القرم عدوانا على دولة مستقلة، مما أدى إلى احتدام الوضع مع روسيا وصولا إلى فرض العقوبات.

تابع الروس تفاعل مصالحهم على الساحة الدولية بدعم النظام السوري، بعد أن استفحلت الحرب الأهلية وظهور تنظيم “داعش” على ساحة الصراع، وبدأ تحالف دولي بقيادة الولايات المتحدة بالتصدي لهذا التنظيم الذي استشري إقليميا، لذا توفر المبرر للمشاركة الروسية المنفردة في قصف “داعش” جويا، واستثمرت موسكو هذا الوضع لتعزيز آخر معقل متاح لها في المياه الدافئة، ووسعت قاعدتها البحرية في طرطوس، وأضافت لها قاعدة حميميم الجوية شرقي اللاذقية.

في الفضاء الجيوستراتيجي الدولي ساندت موسكو نظام الحكم في فنزويلا، وأقرت أنها أرسلت عسكرييها هناك، وطبقا لما أعلنته واشنطن وقتها فقد أبلغ وزير الخارجية الأميركي مايك بومبيو في اتصال مع نظيره الروسي سيرغي لافروف أن الولايات المتحدة لن تبقي مكتوفة الأيدي إذا استمرت روسيا في مفاقمة التوتر في فنزويلا.

احتدمت المواجهة المكتومة بين روسيا وأميركا، القوتين العسكريتين الهائلتين، ووجه القوة الحقيقي يتمثل لدي موسكو في السلاح النووي، حيث تتقارب أعداد الرؤوس النووية بين البلدين وإن كانت روسيا تأتي في المقدمة، وطبقا لتقرير معهد استكهولم لأبحاث السلام وجمعية العلماء الأميركيين عن عام 2022 تمتلك روسيا 5977 رأسا نوويا في مقابل 5428 رأس للولايات المتحدة.

وتتفوق الولايات المتحدة في مجال الأسلحة التقليدية في القوات الجوية والبحرية، وتحديدا حاملات الطائرات التي تبلغ 11 حاملة لواشنطن مقابل واحدة فقط لموسكو، بينما يتفوق الروس في مجال أسلحة القوات البرية، ويتفوقون نوعيا في الصواريخ ومنظومات الدفاع الجوي، لكن قوة الاقتصاد الأميركي تمنح الولايات المتحدة إمكانية هائلة في الإنفاق العسكري، 762 مليار دولار مقابل 42 مليار دولار لروسيا التي ارتفع انفاقها أخير بسبب الحرب الأوكرانية.

بصفة عامة يتيح الإنفاق العسكري الأميركي الضخم الانتشار في أماكن كثيرة من العالم، وجزء من هذا الانتشار يتمثل في تعزيز حلف الناتو في أوروبا، وهو ما تعتبره روسيا تهديد مباشر لها لاسيما بعد اتساع الحلف أوروبيا في العقدين الأخيرين، بعد انهيار الاتحاد السوفيتي وانفصال دول البلطيق الثلاث إستونيا ولاتفيا وليتوانيا وحل حلف وارسو وانضمام دوله مع دول البلطيق إلى حلف الناتو.

أصبحت حدود روسيا الغربية أكثر انكشافا بصورة مباشرة أمام هذا الحلف الذي يشكل التهديد العسكري الأخطر للدولة الروسية، والذي من المعروف أن الولايات المتحدة هي عمود خيمته الأساسي، أي عنصر القوة العسكرية والسياسية الأكثر نفوذا فيه، ومن ثم فإن اتساع تخوم المواجهة القريبة مع أوروبا يعني أيضا اتصالها المباشر مع الولايات المتحدة في هذه المنطقة من العالم.

بعد انضمام فنلندا أخيرا إلى حلف الناتو ازداد طول خط التماس بين روسيا وحلف الناتو لأكثر من 1200 كيلومتر إضافية، مما يرفع -من وجهة النظر الروسية- حجم المخاطر على شمال غرب البلاد، ومع الانضمام المتوقع قريبا للسويد سيتحول بحر البلطيق الذي تطل روسيا عليه من مساحة ضيقة إلى بحر داخلي لحلف شمال الأطلسي، وهذا ما جعل الخبير الروسي إيغور كوروتشينكو رئيس تحرير مجلة الدفاع الوطني يقول إن انتصار روسيا في عملياتها في أوكرانيا يمكن أن يحافظ بشكل جذري على توازن القوى.

في العلاقة بين روسيا وحلف الناتو شكلت أوكرانيا بعد انهيار الاتحاد السوفيتي منطقة عازلة مهمة، لأن التحاق كييف بالحلف لا يمثل فقط تهديدا للحدود البرية بل يجعل من البحر الأسود بحيرة مغلقة لحلف الناتو، مما يخنق الممر الملاحي إلى المياه الدافئة. في البداية حرصت مختلف الأطراف على حياد كييف لكن الولايات المتحدة وأوروبا سعيا فيما بعد على ضمها للحلف، مما فاقم الأوضاع إلى مأزق الحرب الدائرة الآن.

هذا ما انتبه إليه السياسي الأميركي المخضرم هنري كسينغر اعتبارا من عام 2014، محذرا من أن تطور أزمات الملف الأوكراني ستؤدي إلى الانزلاق في حرب باردة جديدة، وفي نفس التوقيت أنذر آخر رئيس للاتحاد السوفيتي ميخائيل غورباتشوف في الذكري الخامسة والعشرين لسقوط حائط برلين من أن العالم على حافة ولوج حرب باردة جديدة مع موسكو، بسبب انهيار الثقة نتيجة ما يطرأ من مستجدات على الملف الأوكراني.

واقعيا حلف شمال الأطلسي هو الذراع الأميركي الذي يسبب قلقا لروسيا، المنافس التقليدي عسكريا للولايات المتحدة، بينما يقلق واشنطن أخيرا التقارب الروسي مع الصين لأن التحالف بينهما يشكل بنيانا قويا من قبضتين، هما قبضة السلاح من موسكو وقبضة الاقتصاد من بكين، دون التغافل عن دورهما في مجموعة بريكس.

أخبار مرتبطة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى