ذلك الابتزاز الإسرائيلي لفرنسا
كتبت ولاء سعيد السامرائي, في “العربي الجديد” :
قوبل إعلان فرنسا تنفيذ القانون الدولي بخصوص مذكّرتي المحكمة الجنائية الدولية اعتقال بنيامين نتنياهو ووزير حربه المقال يوآف غالانت، ترحيباً واسعاً بين الفرنسيين، وبعض الأحزاب المؤيدة للحقّ الفلسطيني، بعد أن صرّح كلّ من وزير الخارجية الفرنسي، ورئيس الحكومة، وكذلك رئيسة الجمعية الوطنية، بأن فرنسا تحترم (وستلتزم) تنفيذ قوانين المحكمة. لكن لم تمضِ سوى أيام حتى انقلب الرئيس الفرنسي على موقف بلاده هذا، إذ تحجّجت الخارجية الفرنسية لتبرير موقفها بالمادة 98 حول حصانة الدول التي لم توقّع نظام روما. لكنّ الحقيقة أن لا علاقة لهذا البند بتنفيذ مذكّرات المحكمة الدولية، لأنه قرار قانوني لا يسمح لها بالتهرّب من تنفيذه، في حين أن الموقف الذي اتخذته فرنسا بعدم التزامها بالقرار هو موقف سياسي. إن هذا الموقف المؤسف للدبلوماسية الفرنسية كان تنازلاً غريباً سريعاً لتوفير الحصانة لمجرم الحرب نتنياهو، الذي سبق له قبل أسابيع أن قال للرئيس ماكرون “إن إسرائيل ستنتصر من دونك”، ردّاً على منع بعض أنواع الذخائر التي تشتريها دولة الاحتلال من فرنسا، وعلى قول ماكرون إن “إسرائيل قد أُنشئت بقرار من الأمم المتحدة “، بعد اتهامات بمعاداة السامية وزّعها مجرم الحرب على المؤسّسة الأممية وعلى رئيسها ومفوضياتها، وكلّ من يقف في وجهه. وصمتت الحكومة الفرنسية وخارجيتها على اعتداءات الجانب الإسرائيلي، مرّة عندما طرحت الشرطة الإسرائيلية، خلال زيارة وزير الخارجية جان نويل بارو كنيسة مقدسية تابعة لفرنسا، مرافقَي الوزير أرضاً، ومنعتهما من الدخول، واقتادتهما مكبّلين إلى مقرّها، ومرّة أخرى، خلال زيارة ماكرون الرسمية للكنيسة نفسها، وذلك رغم الصداقة القوية التي تجمعه مع رئيس دولة الاحتلال، ورغم الدعم الكبير للكيان الذي تميزت به فترة حكم ماكرون. وبدل من أن يتّخذ الرئيس ماكرون موقفاً حازماً من هذه التجاوزات والبلطجة الصهيونية، التي تهدف إلى تنغيص زيارات الوفود الرسمية الفرنسية والضغط عليهم بمثل هذه الإساءات، لوضع حدّ لها، كما كان الحال مع الرئيس الفرنسي الراحل جاك شيراك. لكن يبدو أن الرئيس ماكرون قد قبل التنازلات وخضع لابتزاز نتنياهو الذي رفض مشاركة فرنسا في اللجنة الخماسية المشكّلة لوقف إطلاق النار مع لبنان، وفي المفاوضات والرقابة. إن العلاقة الفرنسية اللبنانية علاقة تاريخية، وعلاقة قوية، ومن المستغرب أن فرنسا (وماكرون شخصياً) لم تتمكّن من فرض وجودها في اللجنة، وتقبل ماكرون هذا الموقف المشين من مجرم الحرب نتنياهو.
يعيد الرئيس ماكرون فرنسا إلى موقفها الأولي الداعم بقوة للاحتلال ولمجرم الحرب نتنياهو عقب 7 أكتوبر (2023)، وهو ما استنكره الشعب الفرنسي
يجمع المحامون وخبراء القانون في فرنسا على أن الموقف السياسي لا يتعارض مع تنفيذ قرارات محكمة الجنايات الدولية. وأصلاً، ليس للرئيس الحقّ في منع تنفيذ أوامر التوقيف (وهم على حقّ)، لكنّ السلطة السياسية الفرنسية يمكنها أن تتدخّل بسهولة، رغم الفصل الدستوري بين السلطات، لتمنع السلطة القضائية من تنفيذ القانون الدولي، لأنها تدخّلت في عدّة مواقف لمنع إنفاذ القانون، والمثل الأقرب لهذه السياسة هو الموقف الفرنسي من الرئيس الروسي فلاديمير بوتين الذي لم تشفع له المادة 98 من نظام روما وعدم توقيع روسيا له، بل اعتبرت الحكومة الفرنسية بوتين مجرم حرب، والأكثر من ذلك دخلت الحرب رسمياً إلى جانب الولايات المتحدة وبريطانيا ضدّ روسيا، مثلما تساند اليوم حرب نتنياهو على غزّة. وقبل ذلك، قامت الولايات المتحدة باستصدار مذكّرة توقيف بحقّ بوتين بعد أسبوعين فقط من الحرب في أوكرانيا، فيما تطلّب الوقت لإصدار المذكرة نفسها بحقّ رئيس الوزراء الصهيوني نتنياهو ستّة أشهر، انهالت فيها الضغوط والتهديدات على الجنائية الدولية، وعلى رئيسها كريم خان، الذي لم يسلم من تهمة معاداة السامية ولا من الابتزاز والملاحقة بشتى الوسائل المعروفة عن ممارسات الاحتلال، في مرأى ومسمع الدول الداعمة لحرب الإبادة في غزّة.
فيما يقول بعض آخر من المحامين أن الخارجية مخطئة في تفسير نظام روما، لتبريرها عدم تنفيذ قرارات “الجنائية”، التي تتطلب تنفيذ القرار بحقّ من صدرت فيهم مذكّرات توقيف وفقاً لنظام روما، المُلزِم لموقّعيه، كما هي الحال مع فرنسا، والكلمة النهائية هي للمحاكم التي تبتّ بالأمر. وهذا الرأي القانوني لا يتوقّف على رأي وزارة الخارجية الفرنسية وغيرها.
يبدو من هذه الآراء القانونية، ومن تصريحات الحكومة، أن ماكرون قد اتخذ هذا القرار بشكل شخصي من دون علم رئيس الحكومة (المستقيل لاحقاً) ميشيل بارنييه، الذي أكّد في وقت سابق أن فرنسا ستطبّق القانون الدولي، ومن دون علم وزير الخارجية جان نويل بارو، ورئيسة الجمعية الوطنية، يائيل براون بيفيه، التي ردّدت كلام رئيس الحكومة، بل الأغلب أن هؤلاء كلّهم قد فوجئوا بقرار الرئيس المُحرِج لهم، الذي يسيء للحكومة أولاً، ولسمعة الدبلوماسية الفرنسية ولمصداقيتها أمام العالم. إن العودة عن قرار تنفيذ مذكّرات المحكمة الدولية يعني أن فرنسا تبّيض رسمياً جرائم الاحتلال، وتوفّر الحصانة لمجرم الحرب نتنياهو ووزيره غالانت، وكلّ من معه من عسكريين ثبتت بالدلائل والوثائق التي حصلت عليها المحكمة الجنائية جرائمهم.
كما يعد موقف فرنسا هذا سابقةً في رفضها تطبيق القانون الدولي، إذ غالباً ما دافعت فرنسا وديبلوماسيتها، خاصّة في العقود الأخيرة، عن احترام هذا القانون ومبادئه، التي تنظّم العلاقات الدولية. إن فرنسا مجبرة على احترام القانون الدولي، ولا سبيل لها إلا باحترامه، واتخاذه أداةً أساسية في حالة المحكمة الجنائية الدولية أمر مهمّ جدّاً، يضاف الى أدوات كثيرة لها لم تستخدمها للضغط على دولة الاحتلال. كيف لفرنسا أن تواجه العالم، خاصّة دول الجنوب، عندما تعتبر قرارات الجنائية صحيحة في حالة الرئيس الروسي بوتين، وصحيحة عندما تخصّ الدول الأفريقية، وغير صحيحة عندما يتعلّق الأمر بالكيان الصهيوني؟
لقد وُضِع القانون الدولي ليطبّق على الجميع، وليس لاستخدامه من هذه الدولة أوتلك بمعايير مزدوجة أو لتفسّره بشكل مغلوط لحصانة هذا وذاك ممّن يقترفون جرائم حرب. إن الارتكاز على هذا القانون هو الخطاب المترابط والقوي والصحيح، الذي يسمح لإنفاذ القرارات التي تصدر عن المؤسّسات الدولية.
وضِع القانون الدولي ليطبّق على الجميع، وليس لاستخدامه من هذه الدولة أوتلك بمعايير مزدوجة أو لتفسّره بشكل مغلوط
بهذا الموقف يعيد الرئيس ماكرون فرنسا إلى موقفها الأولي الداعم بقوة للاحتلال ولمجرم الحرب نتنياهو عقب 7 أكتوبر (2023)، وهو ما استنكره الشعب الفرنسي وبعض الأحزاب، وأثار غضب وزراء خارجية سابقين انتقدوا بقوة وحزم الانحراف غير المقبول والمسيء للسياسة الخارجية الفرنسية في الشرق الأوسط، والموقف الخاطئ من القضية الفلسطينية.
أمّا على الصعيد الداخلي، فإن انقلاب الموقف الرسمي الفرنسي يبعث رسالةً سلبيةً للفرنسيين، ربّما ينكرها الرئيس ماكرون والأحزاب المؤيّدة له، نتيجة “فوضى وعدم استقرار” إدارة الدولة، واحتكار القرار السياسي بيد الرئيس الذي تشجّعه مجموعة من السياسيين الداعمين للاحتلال من اليسار واليمين، منهم الرئيس السابق فرانسوا هولاند، ورئيس الوزراء السابق إيمانويل فالس، ووزير الداخلية الحالي برونو ريتايو، لا تأبه بالقانون الدولي، ولا تختلف تصريحات أغلبهم عن تصريحات وزراء نتنياهو الإرهابيين، بتسلئيل سموتريتش أو إيتمار بن غفير، وترغب في أن يخصّص للمجرم نتنياهو ولجيشه “وضعاً خاصاً” بهم، ربّما بسبب “مظلومية ” متخيّلة، لكن الوقائع العنيدة في الأرض تقول إن المعارضة، سواء حزب فرنسا الأبية أو حزب التجمّع الوطني اليميني، الذين يشكّلون غالبية الجمعية الوطنية، يطالبون ماكرون بالاستقالة كي يعود الاستقرار للحياة السياسية.
بعد هذا الابتزاز الإسرائيلي، هل يكون قرار عدم التزام فرنسا بتنفيذ قرار المحكمة الجنائية تمهيداً أوروبياً لدعم خطّة دولة الاحتلال بالتنسيق مع الولايات المتحدة وألمانيا، التي التحقت بالموقف الفرنسي لإلغاء مذكّرات اعتقال المحكمة الجنائية وفقاً لقانون لاهاي الأميركي ضدّ نتنياهو وغالانت، ولمعاقبة المحكمة الدولية بقطع المساعدات عنها من الرئيس الأميركي المُقبل دونالد ترامب؟