ديون بلا سقف وثقة تتآكل.. أين يتجه اقتصاد فرنسا؟

فرنسا، ثاني أكبر اقتصاد في منطقة اليورو، تقف اليوم على مفترق طرق سياسي واقتصادي خطير بعد سقوط الحكومة مجددًا إثر تصويت برلماني كاسح ضدها. الحدث لم يأتِ بمعزل عن أزمات متراكمة: ديون هائلة، ركود اقتصادي، انقسامات سياسية عميقة، وضغوط اجتماعية متصاعدة.
وفي ظل هذه المعطيات، باتت فرنسا مهددة بفقدان استقرارها السياسي وبتراجع مكانتها داخل الاتحاد الأوروبي، فيما يواجه الرئيس إيمانويل ماكرون واحدًا من أصعب التحديات في ولايته الثانية.
سقوط الحكومات المتكرر.. مؤشر على عدم الاستقرار
منذ أقل من ثلاث سنوات، شهدت فرنسا سقوط خمس حكومات متتالية بفعل الأزمات الاقتصادية والسياسية، وهو رقم يعكس هشاشة النظام التنفيذي في مواجهة الضغوط الداخلية والخارجية. وبحسب مراقبين، فإن هذا التغيير المستمر في رؤساء الحكومات يُفقد السياسات الاقتصادية زخمها ويعطل الإصلاحات الهيكلية، ما يضعف ثقة المستثمرين والأسواق.
المشهد الراهن يكشف أن البرلمان الفرنسي بات ساحة صراع بين أحزاب اليمين واليسار التي توحدت مؤقتًا لإسقاط الحكومة، في وقت يعجز فيه ماكرون عن بناء قاعدة توافقية صلبة تمكنه من تمرير مشاريعه. هذا الانقسام يفتح الباب أمام مرحلة جديدة من الفوضى السياسية، حيث أصبح من الصعب إيجاد شخصية سياسية تحظى بثقة الأغلبية وتتمتع بالكفاءة الاقتصادية المطلوبة.
8.6 تريليون دولار هو إجمالي الديون العامة والخاصة، بزيادة متسارعة تصل إلى 450 ألف دولار كل دقيقة.
11 مليون فرنسي يعيشون تحت خط الفقر، وهو رقم غير مسبوق في دولة صناعية كبرى.
198 ألف شركة أغلقت أبوابها خلال ثلاث سنوات فقط، وهو أعلى معدل إغلاق للشركات في أوروبا.
الاقتصاد الفرنسي يسجل أضعف معدل نمو في العقد الأخير، ما يهدد بتراجع تصنيفه الائتماني ويضع ضغوطًا إضافية على النظام المالي.
هذه المؤشرات تضع فرنسا على حافة أزمة اقتصادية شاملة، تترافق مع تراجع في القدرة الشرائية وارتفاع في معدلات البطالة، ما يزيد من احتمالات عودة احتجاجات الشارع مثل حركة “السترات الصفراء”.
في تحليله عبر برنامج “بزنس مع لبنى” على سكاي نيوز عربية، أوضح رئيس وحدة الشؤون الدبلوماسية والاقتصادية في المنطقة الأوروبية، ناصر زهير، أن المشكلة الفرنسية أعمق من مجرد سقوط حكومة. فهي أزمة رؤية لدى الرئيس ماكرون الذي ركّز على الملفات الأوروبية والخارجية أكثر من الشؤون الداخلية.
زهير لفت إلى أن “مكرون الأوروبي أفضل من مكرون الفرنسي”، في إشارة إلى نجاحه في تعزيز نفوذ بلاده على الساحة الأوروبية، مقابل فشله في تحقيق استقرار اقتصادي داخلي. وأكد أن أي رئيس وزراء جديد يجب أن يكون شخصية اقتصادية مستقلة، بعيدة عن الحسابات الحزبية، لقيادة مرحلة إصلاح شاقة قد تحدد مستقبل فرنسا لسنوات مقبلة.
من أبرز الأخطاء التي وقعت فيها الحكومة، بحسب زهير، اندفاعها نحو زيادة الضرائب لتوفير نحو 40 إلى 44 مليار يورو، في وقت كان الاقتصاد يعاني من الركود. هذه السياسات عمّقت شعور الفرنسيين بالضغط، وزادت الفجوة بين الدولة والمجتمع.
كما أشار إلى أن الاقتصاد الفرنسي خسر فرصًا استراتيجية بعد خروج بريطانيا من الاتحاد الأوروبي (البريكست)، حيث فشلت باريس في جذب الشركات العالمية التي فضّلت الانتقال إلى أمستردام وفرانكفورت، رغم الدعوات المتكررة لتخفيف الضرائب وتشجيع الاستثمار.
انقسام سياسي بلا حلول واضحة
المعضلة الكبرى تكمن في أن المشهد السياسي الفرنسي مقسوم بين يمين ويسار ووسط، من دون وجود كتلة قادرة على فرض حلول حاسمة. وحتى لو فاز اليمين المتطرف بأغلبية في البرلمان، فإن الدستور لا يُلزم الرئيس ماكرون بتكليف رئيس وزراء من الكتلة الأكبر.
زهير أشار إلى أن المعارضة تدفع باتجاه حل البرلمان وإجراء انتخابات جديدة، بينما يسعى ماكرون إلى كسب الوقت عبر تكليف شخصية تكنوقراطية مستقلة، قادرة على التفاوض مع الكتل المختلفة. غير أن هذا الخيار، وإن بدا منطقيًا، قد لا يحظى بإجماع سياسي كافٍ.
الوضع الحالي يعيد إلى الأذهان أحداث تظاهرات السترات الصفراء عام 2019، والتي شكّلت نقطة تحول في علاقة ماكرون بالشعب. ومع توقع انطلاق موجات احتجاجية جديدة خلال الأيام المقبلة، يتوقع أن تواجه الحكومة القادمة تحديًا اجتماعيًا عسيرًا، حيث يرفض الشارع أي إصلاحات تزيد من الأعباء المعيشية.
الرهان على “رئيس وزراء شجاع” قادر على تحمل هذا الضغط يبدو محفوفًا بالمخاطر، خاصة أن أي محاولة لفرض ضرائب جديدة أو خفض في الإنفاق الاجتماعي قد تشعل الشارع مجددًا.
الأعباء الخارجية.. حرب أوكرانيا وغزة
الأزمة الداخلية الفرنسية تتفاقم بفعل أعباء خارجية متزايدة. ففرنسا لعبت دورًا رئيسيًا في دعم أوكرانيا عسكريًا واقتصاديًا، وهو ما تراه المعارضة استنزافًا لموارد كان الأجدر أن توجه للداخل. كذلك، فإن تورط باريس في ملفات مثل حرب غزة يعرض ماكرون لضغوط إضافية، وسط تصاعد الغضب الشعبي من سياسات فرنسا الخارجية.
فقدان النفوذ في إفريقيا
اقتصاديًا، خسرت فرنسا الكثير من نفوذها التقليدي في إفريقيا، التي كانت تمثل رافدًا اقتصاديًا وسياسيًا مهمًا لها. تراجع الدور الفرنسي أمام صعود قوى مثل روسيا والصين في القارة الإفريقية زاد من أعباء الاقتصاد، وقلّص فرص باريس في تعويض خسائرها الأوروبية.
أوروبا على مفترق طرق
الأزمة الفرنسية لا تخص باريس وحدها، بل تهدد الاتحاد الأوروبي بأكمله. فألمانيا، قاطرة الاقتصاد الأوروبي، تعاني بدورها من نمو شبه صفري، ما يجعل الحديث عن اقتصاد أوروبي متكامل أمرًا مشكوكًا فيه. ومع اتجاه بعض الدول، مثل ألمانيا وفرنسا، إلى توقيع اتفاقيات اقتصادية منفردة مع الصين وغيرها، تتعرض وحدة التكتل الأوروبي لاختبار صعب.
خفض التصنيف الائتماني.. الخطر القادم
سقوط الحكومة الفرنسية المتكرر، وتزايد الديون والعجز المالي، يهددان بشكل مباشر التصنيف الائتماني لفرنسا. أي خفض محتمل في التصنيف سيؤدي إلى رفع كلفة الاقتراض، ويضع الاقتصاد تحت ضغوط أكبر، ما يهدد بانزلاق البلاد إلى أزمة مالية تشبه تلك التي شهدتها بعض دول جنوب أوروبا قبل عقد.
ماكرون بلا أوراق رابحة
مع بداية ولايته الثانية، لم يعد لدى ماكرون الكثير ليخسره سياسيًا. لكنه يواجه تحديًا شخصيًا يتمثل في الحفاظ على إرثه السياسي وضمان بقاء حزبه في المشهد. وفي ظل غياب رؤية اقتصادية واضحة، وتزايد الضغوط الداخلية والخارجية، تبدو خياراته محدودة.
هل يكون ماكرون التالي على القائمة؟
فرنسا اليوم أمام أزمة مركبة: ديون متصاعدة، انقسام سياسي، احتجاجات اجتماعية، وضغوط خارجية. وبينما يسعى ماكرون إلى إيجاد شخصية تكنوقراطية لقيادة الحكومة المقبلة، فإن غياب التوافق السياسي، وتراجع ثقة الشارع، يجعل نجاح أي حكومة جديد أمرًا صعبًا.
الأزمة الفرنسية تحمل في طياتها تداعيات تتجاوز حدود باريس لتشمل الاتحاد الأوروبي كله، في وقت يشهد فيه العالم تحولات جيوسياسية كبرى. وإذا لم تجد فرنسا حلولًا جذرية عاجلة، فقد يكون الرئيس ماكرون بالفعل “التالي على القائمة”، ضحية لأزمة داخلية تتجاوز قدرته على التحكم بها.