دور ونفوذ حزب الله بعد الانتخابات
كتب نزار عبد القادر في “اللواء”:
يحظى حزب الله بقدر كبير من الشرعية التي تؤمنها له الدولة اللبنانية، وبما يتيح له حرية العمل في الداخل والخارج دون تحمل النتائج المترتبة على نشاطاته المتعددة الوجوه، بما فيها تدخلاته العسكرية في عدد من الدول الإقليمية، حيث يجري في نهاية المطاف تحميل المسؤولية للدولة اللبنانية، وشكلت الأزمة الراهنة التي يواجهها لبنان مع دول مجلس التعاون الخليجي أفضل مثال لتحميل الدولة اللبنانية مسؤولية السياسات التي يتبعها حزب الله تجاه هذه الدول وتدخلاته العسكرية في شؤونها الداخلية، وخصوصاً من خلال مشاركته في حرب اليمن إلى جانب الحوثيين، وبتوجيه إيراني.
تمكن حزب الله من بناء قدراته السياسية والعسكرية الراهنة على مراحل، مع تجنّب الدخول في لعبة القوة والمواجهة العسكرية مع الدولة اللبنانية أو مع أية فئة لبنانية مناهضة له. وحصل ذلك بشكل تراكمي، ومن خلال الاستفادة من كونه الفريق المسلح الوحيد، الذي حافظ على سلاحه عندما جرى نزع سلاح كل الميلشيات الأخرى في مطلع تسعينات القرن الماضي، تطبيقاً لنص اتفاق الطائف بنزع الأسلحة من الفئات المسلحة غير الرسمية، مع استثناء حزب الله كقوة مقاومة في مواجهة احتلال إسرائيلي لجزء من الجنوب اللبناني، شكّل هذا الاستثناء المرحلة الأولى لبناء قوة حزب الله كحزب سياسي وكتنظيم عسكري.
مع انسحاب الجيش السوري من لبنان في نيسان 2005 على إثر اغتيال الرئيس رفيق الحريري، سارعت قيادة حزب لله إلى أخذ المبادرة لملء الفراغ الذي خلفه الانسحاب العسكري السوري من خلال تنظيم مظاهرات حاشدة لحلفائه ولحلفاء سوريا، حيث تمخضت هذه المظاهرات عن ولادة معسكر 8 آذار، والذي شكّل واقعاً القوة الحاضنة سياسياً وشعبياً لمسيرة الحزب لفرض هيمنته التدريجية على الدولة وعلى حدودها ومرافقها الأساسية بما فيها مرفأ بيروت ومطارها الدولي.
وتميزت المرحلة الثالثة بلجوء حزب الله إلى استعمال سلاحه ضد القوى السياسية المعارضة له، وذلك في 7 أيّار عام 2008، حيث احتل القسم الأكبر من العاصمة وقسم من جبل لبنان الجنوبي في مواجهة قوى 14 آذار، وتمكن من خلال هذه العملية العسكرية لشد القوى السياسية اللبنانية لعقد مؤتمر الدولة، وبالتالي إلى قبولها بإعطاء حزب الله مزيداً من القوة والنفوذ السياسي والعسكري في الداخل، وتكريس معادلة جديدة في مواجهة إسرائيل من خلال الجيش والشعب والمقاومة، والتي تعطي لحزب الله مقاماً شرعياً في الدفاع عن لبنان، مع إدراك الجميع بأن سلاح حزب الله بات موجهاً إلى الداخل اللبناني، وبما يعطي الحزب القدرة لمزيد من النفوذ والهيمنة تمهيداً للسيطرة على كل حدود لبنان، مع كل ما يعني ذلك من حرية حركة وانتقال بالاتجاهين عسكرياً واقتصادياً. وهكذا نجح حزب الله بالاحتفاظ بالثلاثية «الذهبية» الجيش والشعب والمقاومة من خلال اعتمادها كلازمة دائمة في كل البيانات الوزارية للحكومات المتعاقبة.
وتهيأت المرحلة الرابعة لهيمنة حزب الله عسكرياً وسياسياً على كل عناصر السيادة اللبنانية من خلال اندلاع الانتفاضة الشعبية في سوريا في شباط عام 2011، حيث بدأ الحزب يتهيأ للدخول كشريك للجيش السوري في قمع الانتفاضة بعدما نجح نظام بشار الأسد في عسكرتها، لاتهامها لاحقاً بأنها مجموعات إرهابية متطرفة. وجاء تدخل الحزب العسكري أولاً بحجة سكان من اللبنانيين يقيمون داخل الحدود السورية، ومن ثم تطورت تلك الحجة لتتحول بأن تدخله العسكري ما هو سوى ضرورة أمنية لحماية لبنان من الهجمات الإرهابية التي يمكن ان تشنها المنظمات الإرهابية كالنصرة والدولة الإسلامية «داعش». واستعملت شعارات حماية لبنان من الإرهاب للرد على الدعوات اللبنانية بضرورة احترام حزب الله لمبدأ النأي بالنفس الذي اعتمدته حكومة ميقاتي في بيانها الوزاري، ورداً على الحملات السياسية والإعلامية المطالبة بضرورة ان يكون للبنان سياسة دفاعية بحيث يعتمد أمنه فقط على قواه الشرعية.
في الواقع أدى استعمال ثلاثية الجيش والشعب والمقاومة كركائز لحماية لبنان إلى زيادة عاملي القوة والنفوذ لدى حزب الله في مواجهته لخصومه السياسيين، كما نجح في الاستفادة من تحالفه مع التيار الوطني الحر، وخصوصاً بعد انتخاب العماد ميشال عون كرئيس للجمهورية من أجل تثبيت وتوسيع نفوذه داخل الدولة.
وتحوّل الحزب مع حلفائه في حركة أمل والتيار الوطني الحر وتيار المردة وآخرين إلى القوة السياسية الرئيسية في لبنان، وذلك بعد حصوله على أكثرية نيابية (72 نائباً) في انتخابات عام 2018. وسهلت له هذه الأكثرية بأن يلعب دوراً اساسياً في اختيار رئيس الحكومة، وفي عملية تشكيل الحكومات، والحصول بالتالي على وزارات رئيسية، مثل وزارة الصحة والصناعة والزراعة والطاقة.
وانعكست هذه المقاربة الهجينة لتحقيق الأمن والدفاع عن لبنان بصورة مباشرة على الجيش اللبناني، وخصوصاً لجهة تجهيزه بالاسلحة المتطورة اللازمة ليتحول القوة الشرعية القادرة على تحقيق الأمن الوطني ومواجهة الاعتداءات الإسرائيلية، والتي دأب حزب الله على استعمالها للحفاظ على فرض «ثلاثيته الذهبية» على كل البيانات الوزارية كلازمة سياسية.
دأب حزب الله على تحاشي أي تحرش بوحدات الجيش أو حصول أية مواجهة، وهو يُبدي استعداده لمؤازرة الجيش في أي صدام يمكن ان يحدث مع إسرائيل على الحدود الجنوبية، ولكنه يسعى دائماً إلى الحفاظ على حرية ووحدانية قراره العسكري سواء في عملياته في سوريا، أو في حال إمكانية حصول أي مواجهة مع إسرائيل.
يتمتع حزب الله بنفوذ واسع داخل الأجهزة الأمنية اللبنانية، وداخل بعض الدوائر والقيادات العسكرية وذلك من خلال دعمه لعدد من الضباط للحصول على مراكز هامة وحساسة من خلال التشكيلات، ولا بدّ من الاعتراف بمدى نجاح حزب الله على زيادة نفوذه داخل الأجهزة الأمنية من خلال عمليات التنسيق والشراكة في عمليات مكافحة الإرهاب أو تتبع شبكات التجسس الإسرائيلية. ولا بدّ هنا من التوقف عند عمليات التعاون الأمني من خلال لجنة التنسيق والاتصال التي يقودها وفيق صفا منذ عام 1987.
لم يكتفِ حزب الله بزيادة نفوذه السياسي والأمني والعسكري ولدرجة انه بات يمكن ان نقول بأن الدويلة قد أصبحت اقوى من الدولة الشرعية في جميع المجالات بما فيها المجالين المالي والاقتصادي والأمني – العسكري، بل تخطى في عملية تنمية قدراته ونفوذه الحدود اللبنانية ليتحول إلى قوة إقليمية فاعلة داخل عدّة دول عربية، يُشكّل الآن التنظيم العسكري للحزب الذراع العسكري الأساسية لفيلق القدس في الحرس الثوري الإيراني. واللافت بأن الحزب لا يعير أي اهتمام في اضطلاعه بمهماته الخارجية للمصالح اللبنانية، وذلك رغم استفادته القصوى من الشرعية التي تؤمنها له الدولة اللبنانية من خلال مشاركته القوية في السلطتين التنفيذية والتشريعية.
في ظل حالة الضعف والتفكك الراهنة التي بلغتها الدولة، وفي ظل الأزمة الاقتصادية والمعيشية الراهنة ما هو الدور المستقبلي لحزب الله.
يبدو بأن الحزب ينعم بالحفاظ لا بل بزيادة كل عناصر القوة التي مكنته في السنوات السابقة من السيطرة على كل عناصر القوة والنفوذ في لبنان. كما انه بات يحتل مركزاً قوياً ومرموقاً في تقرير السياسات والوقائع الأمنية في عدد من دول الإقليم – الأمر الذي دفع القيادات الإيرانية إلى زيادة استثماراتها في تسليمه وزيادة قدراته العسكرية لتوسيع دوره الإقليمي.
في لبنان يبدو بوضوح بأن قيادة الحزب تتحضر لخوض الانتخابات اللبنانية، مع هدف واضح لزيادة عدد كتلتها النيابية إلى ما يقارب 80 نائباً من أصل 128 نائباً، وبما يمكنها من السيطرة كلياً على السلطتين التنفيذية والتشريعية. لكن من المستبعد ان تدفع هذه السيطرة الحزب للاندفاع للهيمنة على كل كيانية الدولة، وذلك خوفاً من إثارة مواقف الفئات المسيحية وجزء من جماعة السنة للانتفاضة في وجهه، وبالتالي الدفع نحو مواجهة عسكرية يمكن ان تتوسع إلى حرب أهلية، سيكون الخاسر الأكبر فيها حزب الله، حيث سيجد نفسه في مواجهة أكثرية اللبنانيين، في وقت يعجز فيه عن تأمين لقواته حرية التحرّك والانتقال بين مختلف المناطق ذات الأكثرية السكانية الشيعية. في جميع الأحوال لا يمكن لحزب الله ان يحل مكان الدولة اللبنانية فهو يُدرك عجزه عن تأمين الحاجات الأساسية للشعب أو لبيئته الشيعية.