دوافع الولايات المتحدة لإنشاء ميناء غزة المؤقت
كتبت نرمين ناصر, في “الشروق” :
فى مواجهة التأخير والعراقيل الإسرائيليّة فى إيصال المساعدات الإنسانيّة برًا إلى قطاع غزة، أعلن الرئيس الأمريكى فى الثامن من مارس الماضى أثناء خطاب حالة الاتحاد أنه أصدر تعليماته للجيش بإنشاء ميناء مؤقت على ساحل غزة لاستقبال شحنات من الغذاء والماء والدواء. من المفترض أن المساعدات ستصل أولًا إلى قبرص حيث ستُفحص، على أن تُعد للتسليم، وستُنقل لاحقًا بسفن تجارية إلى منصة عائمة قبالة قطاع غزة، ثم بوساطة سفن أصغر إلى الممر البحرى.
بالإضافة إلى ذلك، أعلنت الولايات المتحدة عن وجود حوالى ألف عسكرى وضابط جندى فى هذه المنطقة لتأمين الميناء عند بدء التشغيل، ومع ذلك أوضح مسئولون أمريكيون أن هذا المشروع لا يتضمن «نشر قوات على الأرض». كما ستكون القدرة التشغيلية فى البداية 90 شاحنة مساعدات يوميًا، ثم 150 شاحنة فى اليوم.
الدوافع الأمريكية
توجد عِدة أهداف وراء قرار الولايات المتحدة الأمريكية المُتعلق بإنشاء ممر بحرى، وهو ما يمكن توضيحه على النحو التالى:
أولًا، قد ترغب واشنطن من خلال الممر البحرى تحقيق العديد من الأهداف السياسية التى تتمثل فى تعزيز نفوذها فى منطقة البحر المتوسط ضد محاولات التمدد الروسى فى سوريا وليبيا من ناحية. ومن ناحية أخرى ضد النفوذ الصينى المتزايد فى المنطقة، حيث تتخوف واشنطن من تنامى الاهتمام الصينى بالتواجد فى الموانئ المطلة على المتوسط.
كذلك من المرجح أن ترغب واشنطن فى تأمين أحد أبرز الممرات التجارية المرتقبة، والذى تم الإعلان عنه فى سبتمبر ٢٠٢٣ فى قمة مجموعة الـ 20 بالهند، حيث اتفق كل من الولايات المتحدة، والسعودية، والهند، والإمارات، وفرنسا، وألمانيا، وإيطاليا، والاتحاد الأوروبى، على توقيع مذكرة تفاهم بشأن مشروع إنشاء ممر اقتصادى جديد يربط الهند والشرق الأوسط وأوروبا، والذى سيكون فى مواجهة مشروع «الحزام والطريق» الصينى، حيث تهدف واشنطن إلى إضعاف المبادرة الصينية، عبر إيجاد طرق تجارية بين أسواق الشرق والغرب.
ثانيًا، قد تتخذ الولايات المتحدة المساعدات الإنسانية ذريعة لعسكرة المنطقة لتطويق التواجد الإيرانى فى المنطقة، لا سيما مع تأكيد الولايات المتحدة على تواجد جنود أمريكيون – لحماية الميناء – هذا فضلًا عن إشارة بعض التقارير إلى أنه من الممكن نشر قوات بريطانية على الأرض فى قطاع غزة للمساعدة فى توصيل المساعدات عبر الممر البحرى.
إذ أوضح وزير الخارجية البريطانى «ديفيد كاميرون»، إن بلاده ستتعاون مع الولايات المتحدة لفتح ممر بحرى لتوصيل المساعدات مباشرة إلى غزة، وهو ما يؤكد ارتباط المصالح البريطانية بالتحركات الأمريكية فى المنطقة من ناحية. ويؤكد من ناحية أخرى على إن دمج فرق التخطيط العسكرى البريطانية المتخصصة داخل مقر العمليات الأمريكى فى تامبا بولاية فلوريدا – وكذلك فى قبرص – لعدة أسابيع من شأنه أن يساهم فى بسط نفوذ بريطانيا فى قبرص مع امتلاكها إلى قاعدة عسكرية هناك.
ثالثًا، لا تقتصر الأهمية الاستراتيجية لهذه الخطوة على الجانب الإنسانى فحسب، بل تمتد لتشمل التدريب على عملية قتالية قد تلعب دورًا محوريًا فى حال اندلاع نزاع مسلح بمضيق تايوان. إذ يُظهر الأسطول الأمريكى، من خلال هذه المهمة، قدرته على إقامة جسور بحرية تتحدى العقبات اللوجستية وتعزز من فاعلية القوات الأمريكية فى مواجهة التحديات العسكرية، لا سيما أن هذا الممر يُعد جزءًا من نظام الرصيف العائم المشترك عبر الشاطئ (JLOTS)، الذى من شأنه أن يُسهل على السفن تفريغ المساعدات الإنسانية، كما أنه يعتبر خيارًا استراتيجيًا يعزز من قدرات «البنتاجون» ويوفر له مرونة أكبر فى التعامل مع الأزمات.
رابعًا، تسعى واشنطن أيضًا أن تكون جزءًا فاعلًا من تفاعلات منطقة شرق المتوسط، لتأمين مصالح شركاتها العاملة فى مجال الطاقة وتأمين مصالح حلفائها الاستراتيجيين فى المنطقة. علاوة على ذلك، التواجد فى البحر المتوسط من شأنه أن يساعد واشنطن على احتواء التوترات إذا تجددت بين تركيا واليونان وقبرص، حيث بالتأكيد يرغب «بايدن» فى ضمان المحافظة على وتيرة التهدئة بين هذه الدول الآن، لا سيما مع اقتراب موعد الانتخابات الأمريكية.
ومن الجدير بالذكر، نوهت بعض التقارير أيضًا إلى أنه بعد الانتهاء من بناء الميناء، سيتم تشغيل مطار «ياسر عرفات»، كما سيتم إنشاء جزيرة صناعية بعد ذلك، بهدف التحايل على الميليشيات الحوثية التى تعمل على شن هجمات فى البحر الأحمر.
خامسًا، توجد أهداف اقتصادية يُعتقد أنها قد تكون ضمن الدوافع التى دفعت واشنطن لإنشاء هذا الممر البحرى، أهمها موارد الغاز الطبيعى وطرق التجارة الدولية بالمنطقة. كما أشار البعض أن واشنطن تريد تخفيف الحصار عن الموانئ الإسرائيلية التى تعرضت للاجتياحات والإغلاقات، مثل ميناء إيلات التجارى وميناء أشدود وميناء عسقلان.
دلائل عِدة
يحمل مشروع الممر البحرى العديد من الدلائل وهو ما يمكن استعراضه فيما يلى:
تحايُل أمريكى: فى الوقت الذى تسعى فيه واشنطن إلى إنشاء الممر البحرى لزيادة حجم المساعدات الإنسانية إلى قطاع غزة، وافق الكونجرس الأمريكى على تزويد إسرائيل بمساعدات بحجم ٢٦،٤ مليار دولار فى ٢٠ من أبريل٢٠٢٤. كذلك، استخدمت الولايات المتحدة الفيتو ضد المقترح الجزائرى بشأن منح فلسطين عضوية كاملة فى الأمم المتحدة فى ١٩ أبريل، الأمر الذى يوضح دعم واشنطن لتل أبيب فى حربها على قطاع غزة وأن دوافعها المُعلنة من إنشاء الممر البحرى ليست سوى للتضليل ولتحسين صورتها أمام المجتمع الدولى والداخل الأمريكى المُستاء من إدارة «بايدن» لملف غزة، لا سيما عقب الاحتجاجات الأخيرة التى تشهدها الجامعات الأمريكية، مما يعكس محاولة الرئيس الأمريكى لاسترضاء القاعدة الانتخابية المحلية التى يكاد يخسرها.
تورط أمريكى مباشر: تدافع الولايات المتحدة الأمريكية عن أمن واستقرار إسرائيل دائمًا، الأمر الذى تجلى من خلال تصديها للهجوم الإيرانى الأخير على تل أبيب. بيد أن وجود أفراد من الجيش الأمريكى، من المحتمل أن يجر واشنطن إلى الحرب بشكل مباشر إذا ما استهدفت حركة حماس قوات الجيش، خاصة بعدما وقع هجوم بالقرب من المنطقة التى سيلامس فيها الممر البحرى الأرض.
عرقلة إسرائيلية: لم تقم تل أبيب بحماية عمليات نقل المساعدات كما يجب، حيث فى شهر فبراير الماضى قُتل أكثر من 100 شخص، إما برصاص القوات الإسرائيلية التى كانت تحرس القافلة، وفقا لشهود فلسطينيين، أو دهسًا وسط الحشد، وفقًا لرواية الجيش الإسرائيلى. علاوة على ذلك، فقد تم قصف الشاحنات والمستودعات، ودمرت القوات الإسرائيلية الطرق، كذلك توقف أفراد الشرطة فى القطاع عن حراسة قوافل المساعدات بعدما تم استهدافهم من قبل قوات الاحتلال الإسرائيلى فيما سبق. ولذلك من المرجح أن تقوم تل أبيب بعرقلة إيصال المساعدات عبر الممر البحرى، لا سيما بعدما أعلنت أنه سيتم إيصال المساعدات شريطة إجراء فحوصات أمنية وفقًا للمعايير الإسرائيلية، وهو ما يعنى أيضًا أن القرار الأخير بإدخال أى مساعدات يعود إلى تل أبيب.
تصفية القضية الفلسطينية: ليس من المستبعد أن يكون سبب ترحيب تل أبيب بالمشروع هو تناسبه مع الخطط الإسرائيلية المتمثلة فى التهجير القسرى للفلسطينيين وفى القضاء على الأونروا، باعتبارها الوكالة التى تتمتع بالتفويض لتقديم المساعدات، لا سيما عقب تبرئة اللجنة المستقلة المعنية بمراجعة وفحص الادعاءات الموجه من قبل إسرائيل، وكالة الأونروا فى 22 من أبريل الجارى، من كافة الاتهامات الإسرائيلية.
خلاصة القول، فإن لدى واشنطن عددا من الدوافع التى تدفعها إلى إنشاء الممر البحرى؛ لأنها إذا كانت تريد حقًا معالجة الأزمة الإنسانية فى غزة، فإنه بإمكانها تحقيق ذلك من خلال الضغط على إسرائيل. وذلك عن طريق فتح المعابر البرية دون الحاجة إلى إنشاء هذا الممر البحرى الذى يحتاج تمويلًا كبيرًا وفترة طويلة كى يُحقق الغرض – المُعلن- المرجو منه، لا سيما إن التكلفة التقديرية التى ستتكبدها الولايات المتحدة لبناء الممر قد ارتفعت إلى 320 مليون دولار.