دوافع التقارب التركي مع سوريا
كتبت د. نورة صالح المجيم, في “القبس”:
بعد اندلاع الثورة السورية في 2011 ثم تحولها إلى واحدة من أكبر مآسي القرن الواحد والعشرين، حيث قُتل أكثر من نصف مليون سوري، وفر حوالي نصف الشعب السوري خارج البلاد لاجئين في أرجاء العالم. عبر أردوغان حينها عن رفضه القاطع لعودة العلاقات مع نظام بشار الأسد، بل طالب بتشديد العزلة عليه.
وفي أوائل عام 2022، جرت محاولات لإعادة العلاقات بين تركيا وسوريا، لكنها لم تكلل بالنجاح. وفي الفترة الأخيرة، أطلق أردوغان وحكوماته عدة تصريحات ودعوات تشير بوضوح إلى رغبة قوية لعودة العلاقات كما كانت قبل 2011، التي من بينها دعوة الرئيس بشار لزيارة تركيا.
والجديد أو المختلف عن 2022، هو ملامح الإصرار التركي على عودة العلاقات السابقة تماما وفي أسرع وقت ممكن. وفي الناحية المقابلة، أبدى نظام بشار الأسد استجابة إيجابية للدعوات التركية، لكنه رهن عودة العلاقات بسحب تركيا قواتها من سوريا.
ويتبين من هذا الإصرار التركي أن سوريا قد أصبحت مهمة لتركيا أكثر من أي وقت مضى، بل وحاسمة في مجموعة قضايا حيوية تركية. تدار العلاقات بين الدول من منطلق المصالح وسياقات وظروف متغيرة، ومن ثم ليس من المستغرب أن ينقلب أعداء إلى أصدقاء بين ليلة وضحاها، والعكس صحيح.
تواجه تركيا، وتحديداً نظام أردوغان في الوقت الراهن عدة تحديات خطيرة. ويطل في الواجهة تحدي اقتراب أكراد سوريا من تحقيق حلم الحكم الذاتي. وفي حال تحقيقه، خاصة مع إعلان حركة «قسد» عن إجراء انتخابات محلية للحكم الذاتي، سيكون ذلك كارثة كبرى لتركيا. يعد الملف الكردي من الملفات شديدة الحساسية والتعقيد لتركيا عن غيرها من الدول المجاورة التي لديها أقليات تركية. فتركيا لديها هاجس تاريخي مزمن من تمرد كردي في جنوب شرقي تركيا وإعلان دولة مستقلة، حيث يتجاوز عدد أكراد تركيا الـ25 مليوناً.
وإعلان شمالي سوريا أو أجزاء كبيرة منه حكمه الذاتي، سيشكل حافزا قويا لأكراد تركيا للتمرد، الذي غالبا ما ينتهي بعد جولات طويلة من الصراع بين حكومة أنقرة والمتمردين، خاصة من حزب العمال الكردستاني. ومن ثم، فالتقارب مع سوريا سيسمح لتركيا بالتوغل في شمالي سوريا بما يتجاوز الحدود المسموح بها لتركيا لتعقب عناصر «قسد»، الذين يتعاونون مع حزب العمال الكردستاني، وإجهاض مشروع الحكم الذاتي.
وفي ذات السياق، تحاول تركيا استباق أية خطوات قد يقوم بها ترامب مع تأكد عودته للبيت الأبيض، حيث من المرجح أن يقوم بسحب القوات الأمريكية القليلة من شمالي سوريا، ما سيؤدي إلى حدوث فراغ امني كبير يسمح بتوغل حزب العمال الكردستاني هناك.
يعد ملف عودة اللاجئين السوريين في تركيا الذين يناهز عددهم قرابة أربعة ملايين من الأولويات الحاسمة لتركيا للتقارب مع سوريا، حيث أصبحوا قضية رأي عام بسبب العبء الاقتصادي والأمني والاجتماعي الشديد الذي تتحمله تركيا بسببهم، في ظل تردي اقتصادي تئن منه تركيا.
وهذا الملف تحديدا من أكثر الملفات الضاغطة والمؤرقة لأردوغان، إذ كان أحد الأسباب الرئيسية لخسارة حزبه الكبيرة في الانتخابات المحلية الأخيرة، كما انه سلاح قوي في يد المعارضة التركية، خاصة حزب الشعب الجمهوري المنافس لزيادة شعبيته وتقويض شرعية أردوغان، لا سيما في ظل وجود رأي عام ضاغط بقوة لعودة السوريين إلى ديارهم. ومن ثم، فالتقارب مع دمشق سيساهم في حلحلة ملف اللاجئين عبر عودتهم التدريجية إلى سوريا.
وفي ضوء التردي الاقتصادي الذي تعاني منه تركيا، ستساهم عودة التقارب مع دمشق في تنشيط الاقتصاد التركي. إذ تعد تركيا من اكبر المتضررين اقتصاديا من الأزمة السورية، حيث حرمت من حصصها التصديرية لمنتجاتها المختلفة إلى سوريا، وأغلقت ممرات نقل التجارة التركية العابرة من سوريا إلى الخليج العربي، وطويت صفحة الاستثمارات التركية، خاصة في مجال البنية التحتية. ومع عودة العلاقات ستستعيد تركيا مكاسبها الاقتصادية في سوريا مجددا.