رأي

دماء الأطفال على جدار «المعمداني»

كتبت سعاد فهد المعجل في صحيفة القبس.

صديقتي الفلسطينية وُلِدَت في مستشفى المعمداني، الذي يعمل منذ عام 1882، أسسته جمعية الكنيسة التابعة لكنيسة إنكلترا، وأداره لاحقاً المذهب المعمداني الجنوبي كبعثة طبية بين عامي 1954–1982، قبل أن يعود تحت إدارة الكنيسة الانجليكانية في الثمانينيات.

عُمر المستشفى يفوق بكثير عُمر الكيان الصهيوني، وقد شهد ولادات الكثير من شباب وشابات ونساء ورجال غزة، الذين قضى بعضهم أو أهلهم تحت عنف وإجرام آلة الحرب الصهيونية.

ومع استمرار العدوان المجنون على غزة وأهلها، لجأ الآلاف ممّن فقدوا منازلهم الى أروقة وساحات المستشفيات أملاً في تجنّب القصف الصهيوني المجنون، إلا أنهم نسوا أنهم في مواجهة عدوٍّ لا يفرّق بين دور العبادة والملاهي، ولا بين الأطفال الرضّع والجنود المسلحين، فكان أن تخضّبَت جدران هذا المستشفى العريق، الذي يحتل أحد المربعات السكنية المكتظة في حي الزيتون بغزة، بدماء الأطفال والنساء والشيوخ والمرضى، الذين حوّلهم الجنون الصهيوني الى أشلاء، بحيث لم يكن بالإمكان التعرّف على أغلب الضحايا والشهداء.

ما أن خرجت أرقام شهداء مستشفى المعمداني الى العلَن، حتى بدأت وسائل الإعلام الغربية في التلاعب بالتفاصيل الحقيقية وراء هذه المجزرة وإنكارها، وعاد بعضها يبث بعض اللقاءات مع جنود صهاينة يتحدثون عن «جريمة» قصف «حماس» لتجمّع الحفل الموسيقي في بداية الأحداث، أما وزارة دفاع الكيان الصهيوني فبدأت في الترويج لأكاذيب حول مسؤوليتها عن هذه المجزرة، محذّرة مشاهديها من متابعة وسائل إعلام متطرفة تبث من الشرق الأوسط.

ما لا يُدركه هذا الإعلام المنحرف أن سلوكها قد شَحَن الشوارع العربية من أقصاها إلى أقصاها، والتي خرجت منذ بداية طوفان الأقصى لتستعيد القضية الفلسطينية كقضية العرب الأولى، بعد أن حوّلتها المنظومة السياسية العربية من قضية حق ونضال إلى أوراق سياسية قابلة للمساومة والمفاوضات بزعم السلام والتطبيع، مُعلِنة أن حرب أكتوبر 1973 ستكون آخر الحروب الإسرائيلية – العربية، وأن السلام سيعم فيما بعد ويستقر الشرق الأوسط، وينعم الفلسطينيون بدولتهم الموعودة، وغير ذلك مما كانت تحفل به مؤتمرات المصالحة والتوسّل إلى الكيان الصهيوني المُذِلّة.

خمسون عاماً مضت منذ إعلان حفلة السلام العربي مع إسرائيل، والكيان الصهيوني ماضٍ في انتهاك كل ما يؤدي للسلام، من بناء للمستوطنات، إلى غارات وحروب في غزة ولبنان وغيرها، في سلوك يؤكد أن الكيان الصهيوني أبعد ما يكون عن الاقتناع بجدوى أي سلام، لأن تكلفته غالية جداً على إسرائيل بالتحديد، فالمجرم لا يستطيع ان يعيش في مناخ سلمي وعادل ومستقر، بل يريد عالماً تحكمه الفوضى وآلة الحرب والقصف واللا عدالة، حتى يستطيع إخفاء معالم جرائمه.

المجازر والمذابح التي اقترفها الكيان الصهيوني بحق الفلسطينيين مدوّنة في ذاكرة الشعوب الحرة، من مذبحة دير ياسين عام 1948، إلى الطنطورة في العام نفسه، ثم مذبحة كفر قاسم وخان يونس في عام 1956، أما بعد إعلان انتهاء الحرب بين إسرائيل والعرب، فقد تضاعف عدد المذابح، من مذبحة تل الزعتر في عام 1976، وصبرا وشاتيلا في عام 1982، ثم مذبحة المسجد الأقصى عام 1990، ومذبحة الحرم الابراهيمي عام 1994، ومخيم جنين عام 2002.

إذاً منذ ما قبل السلام المزعوم، ونهاية الحروب العربية – الإسرائيلية، ومن بعده وحتى اللحظة، يستمر اليهود، مُمَثَّلين إما بدولة إسرائيل أو الحركة الصهيونية أو المنظمات العسكرية التابعة للحركة الصهيونية، بعملية تطهير عرقي لإجبار الفلسطينيين على ترك وطنهم.

منذ انطلاقة طوفان الأقصى تكاتَفَت الفصائل الفلسطينية بعد أن كانت منقسمة، وتوحّد الشارع العربي، واستعاد زمام مناصرة القضية الفلسطينية، وأصبح فِعْل المقاومة لا الاستسلام باسم التطبيع شعاراً موحّداً، تُحرّك كل هذا الواقع الجديد مشاهد أشلاء الأطفال ودمائهم، وعويل الأمهات الثكلى، ودعاء المُسنين من خلف جداريات مستشفى المعمداني الشاهد على جرائم الكيان الصهيوني.

أخبار مرتبطة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى